الخميس، 27 ديسمبر 2018

لأننا الأكثر حظاً؛ سوف نموت.

مصدر الصورة
"إن الحياة والموت يلتصقان ظهراً لظهر، فمن المستحيل أن نشعر أننا أحياء إذا لم نفكر أننا سنموت يوماً ما، كما أننا لا نستطيع التفكير بموتنا دون أن نحس وفي اللحظة نفسها بالمعجزة الغريبة، معجزة كوننا على قيد الحياة"، (جوستين غاردر، عالم صوفي).


استهل (محمد المطرود) خاطرته الرائعة بعنوان: " أوسم من الموت وأطول قليلاً"، بأن خاطب الموت: "لا شكَّ ستأتي، أعرفُ أنكَ ستأتي ..."، وبالرغم من بديهية الفكرة، وأننا يوماً ما سنموت كلنا، رضينا أو رفضنا. ومع التصديق الجازم بأن الموت واحد رغم تعدد الأسباب، إلا أن هوة الخلاف تزداد عمقاً عند الحديث عما بعد الموت.

بعضنا لا يعجبهم الأمر ولا يتقبلونه، وتعبيراً عن رفضهم للموت ينزعون إلى الاعتقاد بأن الموت ليس نهايتنا؛ وبعضُ بعضنا يزعمون أن أرواحنا ستتابع حياتها في جسدٍ آخر وحياة أخرى على الأرض، "لم يمت أحدٌ تماما، تلك أرواحٌ تغيَّر شَكلها ومُقامها"، (محمود درويش)؛ وبعضُ بعضنا الآخر يعتقدون أن أرواحنا ستكمل حياتها في مكان آخر حيث يُكافأ الناس أو يعاقبون، "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ"، (آل عمران، 3:107)، "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ"، (رسالة بولس إلى العبرانيين، 9:27).

وتتعدد وجهات النظر وتختلف حول الموت، فهناك عشرات الفرضيات التي تفسر لنا ما هو الموت، ولماذا نموت، وتتنبأ لنا بما بعد الموت؛ وبتعدد واختلاف كل هذه الفرضيات يبقى الموت واحد، كلنا سنموت، لن نعود هنا مرة أخرى.

أما بالنسبة لي، أعتقد أننا سواء آمنا أن الموت هو النهاية، وسواء آمنا أن هناك حياة ما بعد الموت، وبغض النظر إن كانت في جسدٍ آخر على وجه الأرض أو كانت في مكان آخر بعد فناء الكون؛ فإنه يبقى أجمل ما في الحياة أنها تنتهي، فلو كانت الحياة بلا نهاية، فإنها حتماً ستخسر الشكل والبنية والمعنى والغاية.

فمثلاً، تخيل معي أنك تقرأ كتاباً ممتعاً أو تشاهد فيلماً شيقاً، إنه نشاطٌ رائعٌ قد يمنح المرء سعادة عظيمة، ولكن الشيء الذي يجعله قادرٌ على ذلك هو أنه سينتهي في لحظة ما؛ فالكتاب أو الفيلم الذي يستمر ويستمر ويستمر ويستمر ويستمر ويستمر ويستمر إلى الأبد، لن يعود قادراً على منحك ذات القدر من السعادة، بالضبط كما أنك الآن لم تستطع قراءة كلمة "يستمر" لأكثر من ثلاثة أو أربعة مرات متتالية على أقصى تقدير! على الرغم من أنك لربما كنت مستمتعاً أثناء القراءة، إلا أن تكرار الكلمة بهذا الشكل سلب منك كل المتعة وقادك حتماً نحو الملل.

لقد شاهدتُ قبل حوالي أربعة سنوات فيلماً عظيماً اسمه "The Man from Earth" وما زال هذا الفيلم عالقاً في رأسي حتى الآن، يحكي عن رجلٍ ولد في العصر الحجري، وما زال حياً حتى يومنا هذا، وبالرغم من الطابع الدرامي للفكرة التي يقوم عليها الفيلم، وعرضها بشكل بسيط وتشويقي يسهل على المشاهد العادي فهمه مع قليلٍ من التركيز، إلا أنه لا خلاف على أنها فكرة عميقة جداً، تثير سيلاً من الأفكار في ذهن المشاهد وتذهب به يميناً وشمالاً وتجبره على أن يخوض بينه وبين نفسه سجالاً منطقياً طويلاً جداً ليدرك كل ما يُبنى عليها من أفكار وآثار أخرى، كأن تكون الشاهد الوحيد على التاريخ الذي تم تزويره مراراً وتكراراً، وما يتبع ذلك من سخطٍ سيتملكك حين ترى بأم عينك كل فضائح هذا العالم! أو أن تشاهدَ كل من أحببت وهو يفارقُ الحياة، أو أن تخدعَ الآخرين وتفارقهم فجأة خوفاً من اكتشاف أمرك ... إلى آخر السيل الفكري.

فماذا لو كنا نعيش إلى الأبد مثل "John Oldman" بطل الفلم؟ حسناً، بالنسبة لي هذه ليست الحياة التي أتمناها شخصياً، ولا أظن -بالرغم من كونها فكرة جذابة أن تعيش إلى الأبد- أن هنالك من يرغب حقاً بذلك، أن هنالك من خاض سجالاً منطقياً داخل رأسه بخصوص هذه الفكرة، محللاً لجميع السلبيات والإيجابيات المتعلقة بها، ثم خلص إلى رغبته في الخلود إلى الأبد. فلو كان الأمر كذلك، فما الدافع إذن لكي نغادر الفراش صباحاً؟ وما الغاية من النجاح وتحقيق الأهداف؟ وما الحاجة إلى الحب؟! ...، أعتقد أنه لا شيء؛ ببساطة لأنه دوماً هنالك غداً، دوماً هنالك فرصة جديدة، دوماً هنالك يوم جديد، لأنه ببساطة لا وجود للنهاية، فما الداعي للاستعجال؟!

أعتقد أن إدراكنا لأننا سنموت في يوم من الأيام، هو ما يعطينا الدافع لكي نكون أحياءً الآن، وهو ما يدفعنا للاستعجال في السعي إلى الاكتشاف والتعلم والمعرفة والانجاز، وهو ما يدفعنا للمبادرة إلى التعبير عن الحاجة إلى الحب، أن نُحِب وأن نُحَب، الآن وليس لاحقاً، لأن اللحظة التي تمر لن تعود أبداً. وهنا أقتبس ما ورد على لسان البطل الأسطوري "أخيليس" في فيلم "Troy" مخاطباً إحدى فتيات المعبد إن لم تخنني الذاكرة: "دعيني أُخبركِ سراً، الآلهة تحسدنا لأننا فانون، لأن أي دقيقة قد تكون الأخيرة لنا، كل شيء أجمل لأننا بائدون، لن تكوني يوماً أجمل مما أنتِ عليه الآن، لن نكون هنا مرة أخرى".

إذن، هل علينا الخوف من الموت؟ من أن نكون غير موجودين؟ في الواقع لا أعتقد ذلك، فالموت هو جزء طبيعي من الحياة وكما يُعرفُ الشيء بنقيضه، كذا تُعرف الحياةُ بالموت، ولذلك فإنه سيكون من الأكثر عقلانية ألا نخاف الموت، بل ينبغي أن نتآلف معه بدلا من ذلك؛ وعندها فقط يمكننا التركيز على إيجاد المعنى والغاية من الحياة، هنا والآن، أن نعيش الحياة الوحيدة التي نعرفها، المتيقنين تماماً من أننا نحياها الآن، ونساعد الأشخاص من حولنا على عيشها، أن نختار الخير على الشر دون أن ننتظر مكافأة أو نخاف عقاباً في مكان آخر.

أما ما ينبغي علينا أن نخافه حقاً، هو أن نعيش حياة فارغة من أي هدف أو منفعة للبشرية، أن نعيش دون أن نحقق أي شيء، أن نكون مجرد رقم لا قيمة له، مضافين إلى الحياة، لا مُضيفين عليها؛ وهنا أقتبس من (مصطفى صادق الرافعي)، "إذا لم تزد على الحياة شيئاً تكن أنت زائداً عليها".

"سوف نموت، وهذا يعني أننا نحن المحظوظين من بين مليارات الذين لم يولدوا أصلاً. إن عدد الأشخاص المحتملين الذين كان من الممكن أن يكونوا مكاني الآن، مكانك، مكان أي شخص موجود في حياتك، يفوق عدد حبات رمال صحاري العالم، ذلك أن عدد الناس الذين يسمح حمضنا النووي باحتمالية وجودهم، يفوق عدد الموجودين والذين وجدوا في السابق بأضعاف؛ ومن بين كل هذه الاحتمالات المذهلة، إننا، أنت وأنا وبالرغم من كوننا عاديين فقد أتيحت لنا الفرصة لكي نفهم كيف جئنا وما هو أصلنا وكيف نعيش، وما السبب وراء كون أعيننا مفتوحة ولماذا ترى ما ترى، قبل أن تُغلق إلى الأبد."، (ريتشارد دوكنز)

عندما نموت سنعيش بالأعمال التي قمنا بها وفي ذاكرة الاشخاص الذين كنا جزءاً من حياتهم، أما بالنسبة لأجسادنا فإنها ستتحلل إلى عناصرها الأساسية، وتصبح مرة أخرى جزءاً من دورة الطبيعة، فالذرات التي تكوننا الآن ستذهب لتشكل أشياء أخرى، أشجار وطيور، أزهار وفراشات، صخور وأشخاص آخرون، وذلك كما عبر الفيلسوف (نيكوس كزنتزاكيس) عن هذا الأمر بلغةٍ وتعبيراتٍ عذبةٍ جداً حين قال: "إن موتاك لم يعودوا يقبعون في التراب، إنما صاروا طيوراً وأشجاراً وهواء. إنك تجلس بينهم وتستطعم بلحمهم، وتستنشق أنفاسهم. لقد صاروا أفكاراً وأحاسيس".

ونهايةً اسمحوا لي أن أختم باقتباس أخير: "يجب عليك أن تخجل من أن تموت دون أن تحقق شيئاً للإنسانية"، (هوراس مان).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019