الخميس، 27 ديسمبر 2018

إدمان الإباحيات ... حقيقة أم تهويل؟

مصدر الصورة

يعتقد الكثير من الناس أنه لا يوجد ما يمكن تسميته الإدمان على المواد الإباحية. لكن العلم بات يدحض اليوم الاعتقاد القديم القائل بأنه من أجل حصول الإدمان، فلا بد من وجود مادة إدمانية يتم استهلاكها جسدياً؛ مثل السجائر أو الكحول أو المخدرات. فالاستهلاك المفرط للمواد الإباحية يحمل جميع علامات ومخاطر الإدمان الحقيقي.

هل الإدمان على المواد الإباحية حقيقة؟
هنالك جدلٌ قائمٌ الآن في وسائل الإعلام، وحتى في الأوساط الأكاديمية، حول ما إذا كان الاستهلاك القهري للمواد الاباحية هو بالفعل إدمان. وجزء من المشكلة هو ببساطة أن الناس ليسوا متفقين تماماً على ما تعنيه كلمة "إدمان" بالضبط. لكن الدكتور "نورا فولكو"، مديرة المعهد الوطني الأمريكي لتعاطي المخدرات (NIDA)، مقتنعة بأن الإدمان على المواد الإباحية أمرٌ حقيقي. حتى أنها اقترحت تغيير اسم المعهد من أجل شمول "أنواع أخرى من الإدمان مثل المواد الإباحية والمقامرة والطعام".
في الواقع، تُظهر الأبحاث أنه من بين جميع أشكال الترفيه عبر الإنترنت - مثل المقامرة، وألعاب الفيديو، وتصفح المواقع، واستخدام شبكات التواصل الاجتماعي - تعتبر المواد الإباحية الأكثر قابلية لأن تكون نشاطاً/سلوكاً إدمانياً.
لقد اعتاد الأطباء والعلماء على الاعتقاد بأنه لكي يكون هناك إدمانٌ على شيءٍ ما، فيجب أن يكون هناك مادة يتم استهلاكها بشكل مادي في الجسم. مثل السجائر أو الكحول أو المخدرات؛ ولكن بمجرد أن بدأ العلماء في النظر إلى داخل الدماغ، فقد تغير فهمنا لكيفية عمل الإدمان.
فما هو مهم الآن بخصوص الإدمان، أن تركيزنا أصبح ليس بالضرورة على المواد التي تدخل الجسم أو طريقة دخولها إليه، بل ما هيَّة ردود الفعل التي تحدث في الدماغ استجابةً لهذه المواد. فالسجائر والكحول والمخدرات تُدخل موادً كيماوية إلى الجسم بطرقٍ كثيرة: استنشاق، حقن، شرب، وتدخين. ومن جهة أخرى، لا تؤدي المواد الإباحية والإدمانات السلوكية الأخرى، مثل المقامرة، إلى ادخال أي مواد كيميائية أو مواد جديدة إلى الجسم لم تكن موجودة فيه بالفعل. ولكن، هذه السلوكيات تباشرُ عملياتٍ داخل الدماغ مشابهةٍ بشكلٍ مدهش للعمليات التي تحدث نتيجة دخول المواد الإدمانية إلى الجسم، وهذا ما يجعلها مسببة للإدمان، حيث تسيطر على مسارات المكافأة في المخ (لتعرف أكثر اقرأ: الإباحيات والمخدرات .. تأثيرات متشابهة على الدماغ!). وهذا ما تفعله كل مادة إدمانية.
صحيح أن المواد الاباحية قد تدخل الى الدماغ من خلال آلية مختلفة، وصحيح أنها تختلف في ماهيتها عن المواد الإدمانية الأخرى، لكنها في النهاية تفعل نفس الأشياء داخل الدماغ.
يأتي دماغك مجهزاً بما يسمى "مركز المكافآت"، ووظيفته هي تحفيزك للقيام بما يحمي ويضمن بقائك، مثل الأكل للبقاء على قيد الحياة، أو ممارسة الجنس لتمرير جيناتك، وذلك من خلال إغراق دماغك بـ "دوبامين" ومزيج آخر من المواد الكيميائية الأخرى التي تُشعرك بالمتعة في كل مرة تقوم فيها بأحد هذه الأفعال.
لكن دماغك لا يكافئك دائماً على الأشياء الصحيحة، فمثلاً يقوم بإنتاج مستويات عالية من "دوبامين" عندما تتناول كعكة شوكولاتة مقارنة مع ما ينتجه عند تناولك للخبز، لماذا؟ لأنه قبل حوالي 3000 سنة كان من الصعب الحصول على أطعمة ذات سعرات حرارية عالية، فلذلك كان على أجدادنا عندما يعثرون عليها أن يأكلوا كمية أكبر منها طالما لديهم الفرصة لذلك، أما اليوم فعلبة بسكويت "أوريو" لا تبعد أكثر من مسافة الطريق نحو أقرب "سوبر ماركت"، فإذا قمنا بتناولها في كل فرصة تسنح لنا، سنصاب بأمراض القلب والكثير من المشاكل الصحية الأخرى.
الإباحية ببساطة هي وجبات جنسية سريعة "Junk food"[1]، فعندما يستهلك الشخص المواد الإباحية، ينخدع دماغه فيبدأ في ضخ "دوبامين" كما لو كان الشخص يرى شريكاً جنسياً حقاً، بالتأكيد إن إغراق دماغك بالمواد الكيميائية التي تشعرك شعوراً جيداً قد يبدو وكأنه فكرة رائعة في البداية، ولكن مثلما هو الحال مع الوجبات السريعة، فإن الأمر أكثر خطورة مما يبدو[2].
عندما تدخل المواد الإباحية الدماغ، فإنها تُفَعِّلُ مركز المكافأة ليبدأ بدوره بضخ "دوبامين"، الذي يطلق سلسلة من المواد الكيميائية بما في ذلك بروتين يسمى "DeltaFosB"، وظيفة "DeltaFosB" العادية هي بناءُ مساراتٍ عصبيةٍ جديدةٍ بين ما يقوم به شخص ما (مثل استهلاك المواد الإباحية)، وبين المتعة التي يشعر بها، هذه المسارات العصبية الجديدة تكون قوية إلى درجة أنها تتفوق على المسارات الأخرى في الدماغ، مما يجعل العودة إلى استهلاك المواد الإباحية أمراً سهلاً (لتعرف أكثر اقرأ: هل يمكنأن تغير الاباحيات دماغك؟).
ولكن هناك وظيفة أخرى لـ "DeltaFosB"، وهذا هو السبب في أن لقبه هو "المفتاح الجزيئي للإدمان"، بحيث أنه إذا تراكمت كمية كافية من "DeltaFosB"، فإنها تعمل على تفعيل مفتاحٍ جيني يتسبب في تغيرات دائمة في الدماغ تجعل المستخدم أكثر عرضة للإدمان، وبالنسبة للمراهقين، فإن هذا الخطر مرتفعٌ بشكلٍ خاص؛ لأن مركز المكافأة لدى المراهقين يستجيب بشكل أقوى منه في أدمغة البالغين باثنين إلى أربعة أضعاف، ويطلق مستويات أعلى من "دوبامين" وينتج المزيد من "DeltaFosB".
وبوجود كمية كبيرة من "دوبامين" في الدماغ، فإن الدماغ عندها سيحاول الدفاع عن نفسه عن طريق إفراز مادة كيميائية أخرى تسمى CREB، التي تعمل عمل الفرامل في مركز المكافآت، فهي تُبطئ الاستجابة للمواد الكيميائية المسؤولة عن الشعور بالسعادة، ومع افراز هذه المادة في الدماغ، فإن المواد الاباحية التي كانت تثير الشخص تتوقف عن احداث نفس التأثير، حيث يعتقد العلماء أن لـ "CREB" دورٌ جزئي في السبب الذي يدفع مستهلكي المواد الاباحية إلى الاستمرار في زيادة استهلاكهم، وتسمى هذه الحالة بـ "التحمل"[3]، وهي جزء من أي نوع من أنواع الإدمان.
ومع تناقص حساسية المستهلكين للمواد الإباحية بسبب زيادة الإفراز المتكرر لـ "دوبامين"، فإنهم غالباً ما يجدون أنفسهم غير قادرين على الشعور بالراحة دون وجود نسبة عالية في أدمغتهم من "دوبامين"، حتى الأنشطة والسلوكيات الأخرى التي كانت تجعلهم سعداء، مثل الخروج مع الأصدقاء أو لعب لعبة مفضلة، تتوقف عن ذلك بسبب تأثيرات التبليد التي يسببها بروتين "CREB"، حيث أنهم يعانون من الرغبة الشديدة لاستهلاك المواد الاباحية، وغالباً ما يجدون أنفسهم يستنزفون الكثير من وقتهم وانتباههم في استهلاك المواد الإباحية، وفي بعض الأحيان على حساب علاقاتهم، ودراستهم ، أو حتى عملهم.
بعضهم يعاني من القلق أو الكآبة إلى أن يتمكنوا من العودة إلى استهلاك الإباحية، وبينما يتعمقون في استهلاكهم، فعادة ما يتحول ميولهم على نحو متزايد إلى المواد الإباحية الأكثر تطرفاً، والكثير من الذين يحاولون التوقف عن استهلاك المواد الاباحية، يقولون إنه من الصعب جداً التوقف.
إذا كانت هذه الأعراض تبدو كأعراض الإدمان الكلاسيكية، حسناً ... فإن مديرة المعهد الوطني الأمريكي لتعاطي المخدرات توافق على ذلك.

ترجمة: محمود ترابي.


[3]  هي حالة فيسيولوجية تتناقص فيها فعالية المادة المخدرة واستجابة المتعاطي، فيتكيف مع المخدر بعد الاستعمال المتكرر له مما يستلزم زيادة الجرعة للحصول على نفس التأثير [المترجم].

هل يمكن أن تُغيِّر الإباحيات دماغك؟

مصدر الصورة

يتفق الكثير من الباحثين في مجال علم الأعصاب واللدونة/المرونة العصبية[1] على أن الاستهلاك المتكرر للمواد الإباحية يعمل حرفياً على إعادة تشكيل المسارات العصبية في الدماغ. حيث يؤدي استهلاك المواد الإباحية إلى تحفيز الدماغ على ضخِ مزيجٍ من المواد الكيميائية وبناء مسارات عصبية جديدة، مما يؤدي إلى تغيرات عميقة ودائمة في الدماغ.

صدق أو لا تصدق، تشير الدراسات إلى أن أولئك الذين يستهلكون المواد الإباحية على نحو متكرر لديهم أدمغة أقل اتصالاً، وأقل نشاطاً، بل وحتى لديهم أدمغة أصغر في بعض المناطق مقارنة مع غيرهم من الأصحاء.
ولكي نكون منصفين، فإن الدراسات تشير فقط إلى وجود علاقة متبادلة بين استهلاك الإباحية والأدمغة الأصغر والأقل نشاطاً، ولكنها تثير السؤال: هل يمكن حرفياً أن تغير المواد الإباحية عقلك؟
كان العلماء قديماً يعتقدون أنه بمجرد انتهاء مرحلة الطفولة، فإن الدماغ يفقد القدرة على النمو. فقد ظنوا أن لا شيء سوى المرض أو التعرض لإصابة يمكنه أن يغير دماغ البالغين فيزيائياً. ولكننا الآن بتنا نعلم أن الدماغ يستمر في التغير والنمو طوال فترة الحياة. حيث يعمل باستمرار على إعادة تشكيل نفسه وبناء مسارات عصبية جديدة، وهذا الأمر يحدث بشكل خاص في فترة الشباب.
يتكون الدماغ من حوالي 100 مليار عصبون تسمى الخلايا العصبية، وظيفتها نقل الإشارات الكهربائية ذهاباً وإياباً بين أجزاء الدماغ، وإلى بقية أعضاء الجسم. فمثلاً تخيل أنك تتعلم العزف على وتر (E) على الغيتار، عندها سيرسل دماغك إشارة إلى يدك يخبرها بما يجب عليها فعله. وبينما تنطلق هذه الإشارة من خلية عصبية إلى أخرى، تبدأ الخلايا العصبية المُنشَّطة بتشكيل العلاقات؛ لأن "الخلايا العصبية التي تنطلق معاً، ترتبط معاً". فتُشكِّلُ تلك الخلايا العصبية المرتبطة حديثاً ما يسمى "مساراً عصبياً".
ولتوضيح الفكرة أكثر، دعنا نتخيل أن المسار العصبي مثل طريقٍ تُرابيٍّ في غابة، ففي كل مرة يستخدم شخص هذه الطريق، تصبح أكثر اتساعاً ووضوحاً. وكذلك الأمر بالنسبة للمسارات العصبية، ففي كل مرة تنتقل فيها رسالة عبر مسارٍ عصبي في الدماغ، يُصبح المسار أقوى. ومع المزيد من التكرار، سيصبح المسارُ العصبيُ قوياً جداً بحيث يمكنك أن تبدع في العزف على هذا الوتر بدون التفكير في الأمر. إن هذه العملية من بناء مساراتٍ عصبيةٍ جديدة أفضل وأسرع للخلايا العصبية؛ هي كيفية وآلية تعلمنا لأي مهارة جديدة، سواء كانت حل المعادلات الرياضية أو تعلم قيادة السيارة. الممارسة تجعلنا متقنين للمهارة الجديدة [أو كما يقال: التكرار يُعلِّم الشُطَّار].
ولكن هناك ما يجب معرفته. فدماغك هو عضوٌ شرهٌ جداً، قد يزن فقط 2٪ من وزن جسمك، لكنه يستهلك حوالي 20٪ من الطاقة والأكسجين، إضافة إلى ذلك فإن هنالك ندرة موارد في دماغك، حيث أن المنافسة شرسة للغاية بين المسارات العصبية في الدماغ، وتلك المسارات التي لا يتم استخدامها بشكلٍ كافٍ فإنها ستواجه نصيبها من الاستبدال، وفقاً لمبدأ "استخدمها أو اخسرها"، أو كما يقولون: البقاء للأقوى.

وهنا تدخل المواد الإباحية في صلب الموضوع.
تعتبر المواد الإباحية ذات قدرة عالية جداً في بناء وتشكيل مساراتٍ عصبيةٍ جديدة في الدماغ. في الواقع، فإن الإباحية مُنافِسةٌ شرسةٌ لا يكاد أي نشاط آخر قادرٌ على أن ينافسها، بما في ذلك ممارسة الجنس مع شريك حقيقي! حيث يمكن للإباحية في الواقع التغلب على قدرة الدماغ الطبيعية على ممارسة الجنس الحقيقي! لماذا؟ يشرح الدكتور "نورمان دويدج" الباحث في جامعة كولومبيا ذلك، حيث يقول: إن المواد الإباحية تخلق الظروف المثالية وتحفز إطلاق المواد الكيميائية اللازمة لإجراء تغييرات دائمة في الدماغ.

الظروف المثالية لبناء المسارات العصبية الجديدة في الدماغ.
إن الظروف المثالية لتشكيل مسارات عصبية قوية هي عندما يكون دماغك في ما يسميه العلماء "حالة التدفق". إن التدفق هو "حالةٌ مُشبِعَة للغاية من الانتباه المُركَّز"، فعندما تكون في هذه الحالة "التدفق"، تتعمق كثيراً في ما تفعله ولا يبدو أن أي شيء آخر قد يثير انتباهك أو اهتمامك. ربما تكونُ قد خبرتَ هذه الحالة من قبل، أثناء ممارسة لعبة ما؛ أو وأنت تجري محادثةً مثيرةً مع أحد الأصدقاء؛ أو تقرأُ كتاباً رائعاً، فإنك تكونُ شديدَ التركيز على ما تفعله، لدرجة أنك تفقد احساسك بالوقت، وتشعر كما لو أن كل شيء من حولك يختفي، وتود لو يستمر ذلك الفعل إلى الأبد. ببساطة هذه هي "حالة التدفق".
بينما تكون في حالة التدفق، فإن ذلك كما لو أن لديك قدراتٌ فائقةٌ جداً، عندما يبدو أنكَ تفعلُ كلَّ شيءٍ بشكل صحيح، ويكون تركيزك مكثفٌ، وذاكرتك في أشد قوتها. وبعد مرور سنوات، ستظل تتذكر الحوار الذي أجريته بدقة، أو تفاصيلَ ما كنتَ تقرأه.
تخيل الآن شخصاً ما، يجلسُ أمام الكمبيوتر عند الساعة الثالثة صباحاً، يُشاهد المواد الإباحية. إن هذا الشخص يكون منغمساً تماماً في نشوة المشاهدة، بحيث لا يمكن لأي شيء آخر أن يستحوذ على اهتمامه، ولا حتى النوم. حيث يكون في حالة مثالية لتشكيل وبناء مسارات الخلايا العصبية الجديدة، ومع الانتقال من صفحة إلى أخرى بحثاً عن الصورة المثالية، مع عدم الإدراك بأن كل صورة تتم مشاهدتها تعمل على تعزيز المسارات التي يتم بناؤها وتشكيلها في دماغه؛ يتم تخزين تلك الصور بعمق في دماغه، حيث أنه سوف يتذكرها لفترة طويلة جداً، ربما طيلة حياته.

كوكتيل المواد الكيميائية التي تفرز في الدماغ.
مثل المواد والسلوكيات الإدمانية الأخرى، تعمل المواد الإباحية على تنشيط جزء من الدماغ يسمى "مركز المكافأة"، مما يتسبب في إطلاق كوكتيل من المواد الكيميائية التي تمنحك شعوراً مؤقتاً وقوياً بالنشوة (لتعرف أكثر اقرأ: الإباحيات والمخدرات .. تأثيرات متشابهة على الدماغ!). واحدة من هذه المواد الكيميائية في هذا الكوكتيل هو بروتين يدعى دِلتا فوس بي "DeltaFosB".
قلنا سابقاً أن بناء مسارات الخلايا العصبية في الدماغ هو مثل بناءِ طريق في الغابة، أليس كذلك؟ حسناً، "DeltaFosB" يشبه مجموعةً من متسلقي الجِبال يحملون اللقاطات والمعاول، ويعملون مثل القنادس لبناء طريق. ومع تدفق بروتين "DeltaFosB"، يستعد الدماغ لصناعة علاقات قوية بين استهلاك المواد الإباحية والمتعة التي يشعر بها المستهلك أثناء الاستهلاك. ببساطة، يشبه الأمر كما لو أن بروتين "DeltaFosB" يقول: "هذا شعور جيد. دعونا نتأكد من تذكر هذا السلوك حتى نتمكن من فعله مرة أخرى للشعور بالمتعة".
يعتبر بروتين "DeltaFosB" مهماً لتعلُّم أي نوع من المهارات الجديدة، ولكنه يمكن أن يؤدي أيضاً إلى سلوكيات إدمانية/قهرية، خصوصاً عند المراهقين. حيث يشار إلى "DeltaFosB" باسم "المفتاح الجزيئي للإدمان"، لأنه إذا تم تدفقه بما يكفي في الدماغ وقام ببناء ما يكفي من الممرات العصبية الجديدة، فإنه يقوم بتفعيل الجينات التي تخلق الرغبة الشديدة على المدى الطويل، مما يدفع المستخدم إلى العودة للحصول على المزيد. وبمجرد إفراز هذا البروتين فإنه يَعلَقُ في الدماغ لأسابيع أو أشهر، وهذا هو السبب في أن مستهلكي المواد الإباحية قد يشعرون بالرغبة الشديدة في معاودة الاستهلاك حتى بعد فترة طويلة من توقفهم عن المشاهدة.
والخبر السار هو أن اللدونة/المرونة العصبية تعمل في كلا الاتجاهين[2]؛ بحيث إذا لم يتم تعزيز المسارات العصبية التي تم بناؤها للمواد الإباحية، فسوف تختفي في النهاية، لذلك يمكن لآليات الدماغ نفسها التي تعمل على بناء المسارات العصبية للمواد الإباحية أن تستبدل هذه المسارات العصبية بمسارات جديدة لشيء آخر.

ترجمة: محمود ترابي.





[1]  اللدونة/المرونة العصبية (Neuroplasticity): هي قدرة الدماغ على إعادة تنظيم وتشكيل نفسه عن طريق تكوين روابط عصبية جديدة طوال فترة حياة الكائن الحي [المترجم].

الإباحيات والمخدرات .. تأثيرات متشابهة على الدماغ!

مصدر الصورة

قد يكون هذا الموضوع مفاجئاً! ولكن في الحقيقة إن المواد الإباحية [سواءً أكانت صوراً؛ أو فيديوهات؛ أو قصصاً إيروتيكية[1]، تؤثر على الدماغ بطرقٍ مشابهةٍ جداً للمواد الإدمانية، مثل التبغ. حيثُ تشير الدراسات إلى أن المواد الإباحية [بجميع أشكالها] تُحفِّز نفس المناطق التي تعمل المواد الإدمانية على تحفيزها في الدماغ، مما يجعله يُفرز نفس المواد الكيميائية التي تُفرز فيه عندما يتعرض للمواد الإدمانية. حيث تعمل المواد الإباحية على خلقِ مساراتٍ عصبيةٍ جديدةٍ في الدماغ تسبب التوق والرغبة الشديدين بمعاودة الاستهلاك؛ مما يؤدي إلى عودة المُستهلك إلى استهلاك مواد إباحية أكثر تطرفاً؛ للحصول على ذات النشوة السابقة.

للوهلة الأولى، يَصعُب تصديق أن التبغ والإباحية لهما الكثير من القواسم المشتركة. فأحدهما يتم عرضه من خلف "الكاونتر" في محطة الوقود أو "سوبر ماركت" [ويُمنع بيعه لمن هم دون الثامنة عشرة] بسبب أضراره المعروفة؛ والآخر متاح فعلياً في كل مكان. أحدهما من الممكن أن يصبح بسرعة إدماناً مُكلفاً مادياً، بينما يأتي الآخر مجاناً مع الاتصال بالإنترنت. ولنكن صادقين، لا يَعرِضُ "هيو هيفنر"[2] صوراً لأحد المسؤولين التنفيذيين السريين لشركات التبغ على مجلاته الإباحية.
حسناً، أين يكمن التشابه إذن؟ في الواقع إنه داخل الدماغ[3].
في حالة لم تكن جراحَ أعصابٍ [كما هو الأمر بالنسبة لي]، فإنني أضع بين يديك شرحاً مفصلاً حول كيفية عمل الدماغ. في عمق الدماغ هنالكَ ما يسمى بـ "مركز المكافأة"، الذي يعمل على إطلاق المواد الكيميائية التي تُشعِرُك بالمتعة والسعادة داخل دماغك؛ وذلك كلما أتيتَ سلوكاً صحياً، كتناول الطعام، أو القيام بالتمارين الرياضية، أو الاستمتاع بتقبيل من تحب. إن الشعور بالمتعة الذي تحصل عليه نتيجةً لهذه الإفرازات الكيميائية يجعلكَ ترغبُ في تكرار هذا السلوك مرة أخرى، وبفضل مركز المكافأة الخاص بك، فإنَّ دماغكَ يكونُ مُبرمجاً بقوة لتحفيزك على القيام بسلوكياتٍ من شأنها تحسين صحتك وزيادة فرص بقائك على قيد الحياة. في الوضع الطبيعي، إنه نظام رائع!

ولكن المشكلة تكمن في أن الدماغ من الممكن خداعه!
عندما يتم استخدام المواد الإدمانية، فإنها تُعطي الدماغ "إشارةً خاطئة"، وحيث أن الدماغ لا يستطيع التفريق بين العقاقير المخدرة والمكافأة الحقيقية والصحية، لذا فإنه يعمل على تنشيط مركز المكافآت؛ فيتم إطلاق مزيج من المواد الكيميائية من أهمها "دوبامين"، مما يدفع الدماغ إلى البدء في خلق مساراتٍ عصبيةٍ جديدةٍ تعملُ على إيجاد حالة من التوق إلى المكافأة الزائفة. وطالما أن هنالك الكثير من "دوبامين" الفائض في الدماغ، فإن الرغبة الشديدة للاستهلاك ستصبح أقوى، وسيشعر المستهلك بحافز كبير لمواصلة السعي للمزيد من المادة الإدمانية. وبشكل أساسي، تقوم المواد الإدمانية بالسيطرة على الدماغ وتحويل مساراته العصبية في اتجاه آخر لم يكن في الحسبان، فبدلاً من تشجيع الشخص على السلوكيات الصحية، تقود المواد الإدمانية مستهلكها إلى سلوكيات غير صحية على الإطلاق، بل وقد تكون خطيرة أيضاً.

هل خمنت ما الذي يفعل هذا أيضاً؟
وجد الباحثون أن المواد الإباحية والمواد الإدمانية لهما تأثيرات مشابهة جداً على الدماغ، وتختلف هذه التأثيرات بشكل كبير عن كيفية تفاعل الدماغ مع الملذات الطبيعية والصحية كتناول الطعام أو ممارسة الجنس. فكِّر في الأمر، بعد أن تتناول وجبة خفيفة أو تستمتع بلقاء رومانسي، ستنخفض الرغبة الشديدة لديك في النهاية وستشعر بالرضا. لماذا؟ لأن دماغك يحتوي على مفتاح "إيقاف" طبيعي للتمتع بالملذات الطبيعية؛ "فخلايا 'دوبامين' سيتوقف نشاطها بعد الاستهلاك المتكرر من 'المكافأة الطبيعية' كالغذاء أو الجنس"، (نورا فولكو، مديرة المعهد الوطني للإدمان على المخدرات). ولكن المواد الإدمانية تعمل على زيادة مستويات "دوبامين" بشكلٍ كبير دون إعطاء الدماغ فترة راحة. وكلما ازداد عدد الجرعات التي يتعاطاها المدمنين، كلما زاد تدفق "دوبامين" في الدماغ، وكلما أصبحت دوافعهم أكثر قوة للاستمرار في تعاطيها. هذا هو السبب في أن مدمني المخدرات يجدون صعوبة بالغة في التوقف عن التعاطي بعد تعاطيهم للجرعة الأولى. "جرعة واحدة قد تتحول إلى العديد من الجرعات، لدرجة أنه قد يستمر التعاطي طوال عطلة نهاية الأسبوع".

ما الذي لديه القدرة على مواصلة ضخ "دوبامين" إلى الدماغ بلا نهاية؟
لقد عَرَفَ العلماء منذ فترة طويلة أنه يمكن زيادة النشاط الجنسي وتعزيز الأداء الجنسي ببساطة عن طريق تقديم شيء جديد، مثل وضعية جنسية مختلفة؛ أو استخدام لعبة جنسية؛ أو ممارسة الجنس مع شريك جديد. هذا لأن الدماغ يستجيب للمحفزات الجنسية الجديدة عن طريق ضخ المزيد والمزيد من "دوبامين"، مما يغمر الدماغ بـ "دوبامين" كما تفعل المواد المخدرة. والمحفزات الجنسية الجديدة هي بالضبط ما توفره المواقع الإباحية على الإنترنت: تدفق لا نهائي من الصور [والكليبات، والقصص الإيروتيكية] المثيرة الجديدة التي يتم تحميلها بسرعة عالية، وبألوان زاهية، على مدار 24 ساعة في اليوم. وقبل أن يبدأ المستهلك بالملل، يمكنه دائماً منح نفسه جرعة أخرى من "دوبامين" بمجرد النقر على شيء مختلف، شيء أكثر تحفيزاً وتطرفاً من ذي قبل. في الواقع، يتبع استهلاك المواد الإباحية نمطاً قابلاً للتنبؤ به يتشابه بشكل مخيف مع تعاطي المخدرات. ومع مرور الوقت، تؤدي المستويات المفرطة من "دوبامين" في دماغ المستهلك إلى زيادة نسبة التحمل (Tolerance)، تماماً مثلما يحصل في دماغ مستخدم المخدرات. الطريقة نفسها التي يحتاج بها المدمن في النهاية إلى المزيد والمزيد من المخدرات للحصول على النشوة أو حتى الشعور الطبيعي، سينتهي المطاف بمستهلكي المواد الإباحية العادية بالانتقال إلى استهلاكها بكميات أكبر ووقت أطول أو البحث عن إصدارات وأنواع أكثر تطرفاً – أو كليهما – للشعور بنفس الإثارة مرة أخرى. وبمجرد الإدمان على استخدام المواد الإباحية، يمكن أن يؤدي الإقلاع عنها إلى أعراض انسحابية مشابهة لأعراض الانسحاب المصاحبة للإقلاع عن المواد الإدمانية.

لكن تبقى دوماً بارقةُ أمل، فحتى أولئك الذين لديهم إدمانٌ عميق على المواد الإباحية يمكنهم أن يُقلعوا عنها ويستردوا حيواتهم من جديد. في الواقع لقد نجح الآلاف بذلك[4]، وإن كنتَ تريدُ مَصادرَ إضافيةً لك أو لمن يهمك أمره، فانقر هنا لمعرفة المزيد.

ترجمة: محمود ترابي.




[1]  هي نوع من أنواع "الأدب الإباحي" وهو الأدب الذي يحتوي على مواد خيالية أو واقعية تثير قارئها جنسياً، وقد يتخذ شكل الروايات والقصص القصيرة والشعر والمذكرات [المترجم].
[2]  مُنشئ ورئيس تحرير مجلة "Playboy" الشهيرة [المترجم].
[4] See, E.G. Your Brain On Porn. (2010, December 5). Rebooting Accounts. Retrieved From Https://Yourbrainonporn.Com/Rebooting-Accounts; NoFap. Success Stories. Retrieved From Https://Www.Nofap.Com/Forum/Index.Php?Forums/Success-Stories.24/

لأننا الأكثر حظاً؛ سوف نموت.

مصدر الصورة
"إن الحياة والموت يلتصقان ظهراً لظهر، فمن المستحيل أن نشعر أننا أحياء إذا لم نفكر أننا سنموت يوماً ما، كما أننا لا نستطيع التفكير بموتنا دون أن نحس وفي اللحظة نفسها بالمعجزة الغريبة، معجزة كوننا على قيد الحياة"، (جوستين غاردر، عالم صوفي).


استهل (محمد المطرود) خاطرته الرائعة بعنوان: " أوسم من الموت وأطول قليلاً"، بأن خاطب الموت: "لا شكَّ ستأتي، أعرفُ أنكَ ستأتي ..."، وبالرغم من بديهية الفكرة، وأننا يوماً ما سنموت كلنا، رضينا أو رفضنا. ومع التصديق الجازم بأن الموت واحد رغم تعدد الأسباب، إلا أن هوة الخلاف تزداد عمقاً عند الحديث عما بعد الموت.

بعضنا لا يعجبهم الأمر ولا يتقبلونه، وتعبيراً عن رفضهم للموت ينزعون إلى الاعتقاد بأن الموت ليس نهايتنا؛ وبعضُ بعضنا يزعمون أن أرواحنا ستتابع حياتها في جسدٍ آخر وحياة أخرى على الأرض، "لم يمت أحدٌ تماما، تلك أرواحٌ تغيَّر شَكلها ومُقامها"، (محمود درويش)؛ وبعضُ بعضنا الآخر يعتقدون أن أرواحنا ستكمل حياتها في مكان آخر حيث يُكافأ الناس أو يعاقبون، "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ"، (آل عمران، 3:107)، "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ"، (رسالة بولس إلى العبرانيين، 9:27).

وتتعدد وجهات النظر وتختلف حول الموت، فهناك عشرات الفرضيات التي تفسر لنا ما هو الموت، ولماذا نموت، وتتنبأ لنا بما بعد الموت؛ وبتعدد واختلاف كل هذه الفرضيات يبقى الموت واحد، كلنا سنموت، لن نعود هنا مرة أخرى.

أما بالنسبة لي، أعتقد أننا سواء آمنا أن الموت هو النهاية، وسواء آمنا أن هناك حياة ما بعد الموت، وبغض النظر إن كانت في جسدٍ آخر على وجه الأرض أو كانت في مكان آخر بعد فناء الكون؛ فإنه يبقى أجمل ما في الحياة أنها تنتهي، فلو كانت الحياة بلا نهاية، فإنها حتماً ستخسر الشكل والبنية والمعنى والغاية.

فمثلاً، تخيل معي أنك تقرأ كتاباً ممتعاً أو تشاهد فيلماً شيقاً، إنه نشاطٌ رائعٌ قد يمنح المرء سعادة عظيمة، ولكن الشيء الذي يجعله قادرٌ على ذلك هو أنه سينتهي في لحظة ما؛ فالكتاب أو الفيلم الذي يستمر ويستمر ويستمر ويستمر ويستمر ويستمر ويستمر إلى الأبد، لن يعود قادراً على منحك ذات القدر من السعادة، بالضبط كما أنك الآن لم تستطع قراءة كلمة "يستمر" لأكثر من ثلاثة أو أربعة مرات متتالية على أقصى تقدير! على الرغم من أنك لربما كنت مستمتعاً أثناء القراءة، إلا أن تكرار الكلمة بهذا الشكل سلب منك كل المتعة وقادك حتماً نحو الملل.

لقد شاهدتُ قبل حوالي أربعة سنوات فيلماً عظيماً اسمه "The Man from Earth" وما زال هذا الفيلم عالقاً في رأسي حتى الآن، يحكي عن رجلٍ ولد في العصر الحجري، وما زال حياً حتى يومنا هذا، وبالرغم من الطابع الدرامي للفكرة التي يقوم عليها الفيلم، وعرضها بشكل بسيط وتشويقي يسهل على المشاهد العادي فهمه مع قليلٍ من التركيز، إلا أنه لا خلاف على أنها فكرة عميقة جداً، تثير سيلاً من الأفكار في ذهن المشاهد وتذهب به يميناً وشمالاً وتجبره على أن يخوض بينه وبين نفسه سجالاً منطقياً طويلاً جداً ليدرك كل ما يُبنى عليها من أفكار وآثار أخرى، كأن تكون الشاهد الوحيد على التاريخ الذي تم تزويره مراراً وتكراراً، وما يتبع ذلك من سخطٍ سيتملكك حين ترى بأم عينك كل فضائح هذا العالم! أو أن تشاهدَ كل من أحببت وهو يفارقُ الحياة، أو أن تخدعَ الآخرين وتفارقهم فجأة خوفاً من اكتشاف أمرك ... إلى آخر السيل الفكري.

فماذا لو كنا نعيش إلى الأبد مثل "John Oldman" بطل الفلم؟ حسناً، بالنسبة لي هذه ليست الحياة التي أتمناها شخصياً، ولا أظن -بالرغم من كونها فكرة جذابة أن تعيش إلى الأبد- أن هنالك من يرغب حقاً بذلك، أن هنالك من خاض سجالاً منطقياً داخل رأسه بخصوص هذه الفكرة، محللاً لجميع السلبيات والإيجابيات المتعلقة بها، ثم خلص إلى رغبته في الخلود إلى الأبد. فلو كان الأمر كذلك، فما الدافع إذن لكي نغادر الفراش صباحاً؟ وما الغاية من النجاح وتحقيق الأهداف؟ وما الحاجة إلى الحب؟! ...، أعتقد أنه لا شيء؛ ببساطة لأنه دوماً هنالك غداً، دوماً هنالك فرصة جديدة، دوماً هنالك يوم جديد، لأنه ببساطة لا وجود للنهاية، فما الداعي للاستعجال؟!

أعتقد أن إدراكنا لأننا سنموت في يوم من الأيام، هو ما يعطينا الدافع لكي نكون أحياءً الآن، وهو ما يدفعنا للاستعجال في السعي إلى الاكتشاف والتعلم والمعرفة والانجاز، وهو ما يدفعنا للمبادرة إلى التعبير عن الحاجة إلى الحب، أن نُحِب وأن نُحَب، الآن وليس لاحقاً، لأن اللحظة التي تمر لن تعود أبداً. وهنا أقتبس ما ورد على لسان البطل الأسطوري "أخيليس" في فيلم "Troy" مخاطباً إحدى فتيات المعبد إن لم تخنني الذاكرة: "دعيني أُخبركِ سراً، الآلهة تحسدنا لأننا فانون، لأن أي دقيقة قد تكون الأخيرة لنا، كل شيء أجمل لأننا بائدون، لن تكوني يوماً أجمل مما أنتِ عليه الآن، لن نكون هنا مرة أخرى".

إذن، هل علينا الخوف من الموت؟ من أن نكون غير موجودين؟ في الواقع لا أعتقد ذلك، فالموت هو جزء طبيعي من الحياة وكما يُعرفُ الشيء بنقيضه، كذا تُعرف الحياةُ بالموت، ولذلك فإنه سيكون من الأكثر عقلانية ألا نخاف الموت، بل ينبغي أن نتآلف معه بدلا من ذلك؛ وعندها فقط يمكننا التركيز على إيجاد المعنى والغاية من الحياة، هنا والآن، أن نعيش الحياة الوحيدة التي نعرفها، المتيقنين تماماً من أننا نحياها الآن، ونساعد الأشخاص من حولنا على عيشها، أن نختار الخير على الشر دون أن ننتظر مكافأة أو نخاف عقاباً في مكان آخر.

أما ما ينبغي علينا أن نخافه حقاً، هو أن نعيش حياة فارغة من أي هدف أو منفعة للبشرية، أن نعيش دون أن نحقق أي شيء، أن نكون مجرد رقم لا قيمة له، مضافين إلى الحياة، لا مُضيفين عليها؛ وهنا أقتبس من (مصطفى صادق الرافعي)، "إذا لم تزد على الحياة شيئاً تكن أنت زائداً عليها".

"سوف نموت، وهذا يعني أننا نحن المحظوظين من بين مليارات الذين لم يولدوا أصلاً. إن عدد الأشخاص المحتملين الذين كان من الممكن أن يكونوا مكاني الآن، مكانك، مكان أي شخص موجود في حياتك، يفوق عدد حبات رمال صحاري العالم، ذلك أن عدد الناس الذين يسمح حمضنا النووي باحتمالية وجودهم، يفوق عدد الموجودين والذين وجدوا في السابق بأضعاف؛ ومن بين كل هذه الاحتمالات المذهلة، إننا، أنت وأنا وبالرغم من كوننا عاديين فقد أتيحت لنا الفرصة لكي نفهم كيف جئنا وما هو أصلنا وكيف نعيش، وما السبب وراء كون أعيننا مفتوحة ولماذا ترى ما ترى، قبل أن تُغلق إلى الأبد."، (ريتشارد دوكنز)

عندما نموت سنعيش بالأعمال التي قمنا بها وفي ذاكرة الاشخاص الذين كنا جزءاً من حياتهم، أما بالنسبة لأجسادنا فإنها ستتحلل إلى عناصرها الأساسية، وتصبح مرة أخرى جزءاً من دورة الطبيعة، فالذرات التي تكوننا الآن ستذهب لتشكل أشياء أخرى، أشجار وطيور، أزهار وفراشات، صخور وأشخاص آخرون، وذلك كما عبر الفيلسوف (نيكوس كزنتزاكيس) عن هذا الأمر بلغةٍ وتعبيراتٍ عذبةٍ جداً حين قال: "إن موتاك لم يعودوا يقبعون في التراب، إنما صاروا طيوراً وأشجاراً وهواء. إنك تجلس بينهم وتستطعم بلحمهم، وتستنشق أنفاسهم. لقد صاروا أفكاراً وأحاسيس".

ونهايةً اسمحوا لي أن أختم باقتباس أخير: "يجب عليك أن تخجل من أن تموت دون أن تحقق شيئاً للإنسانية"، (هوراس مان).

ما الذي تخفيه الكلمات؟

مصدر الصورة
"الآن فقط، أي بعد فوات الأوان، أدرك الإنسان الخطأ الذي أشاعه بثقته الزائدة باللغة" (نيتشة).
"نحن لم نعد نستخدم الكلمات بل نوظفها، نتحدث عن تأثيرها لا عن معناها"، (روبرت فيسك).

الحرب الثقافية هي -أولاً وقبل كل شيء، وأخيراً وبعد كل شيء- حربٌ كلامية/لغوية. حقيقةً إنَّ لنا أن نسأل بجدية: ما الذي تخفيه كلمة؟ ما الكامن في بضعة أحرف؟ وهل عندما نستبدل الكلمات بغيرها تكون الكلمات الجديدة قادرة على إيصال المعنى ذاته؟ أم أنها وسيلة لتحريف الحقائق وتضليل المتلقين؟ هل من الجائز أن نتعامل/نتعاطى مع هذه الكلمات على أنها معانٍ للمعاني؛ دون أن نُلقي بالاً لدلالات الألفاظ؟

يعجُّ الخطاب الإعلامي والسياسي بمظاهر تطويع اللغة، تلطيفاً؛ وتغليظاً؛ وإيحاءً؛ وتمويهاً. وتتضمن دساتير الأداء لكبرى المؤسسات الإعلامية قواعدَ صارمة ومُلزمة في انتقاء الكلمات وكيفية صياغة الرسالة الإعلامية.

حسناً، يقال إنكَ إن حَكَمْتَ اللغة حَكَمْتَ الثقافة؛ وإن حَكَمْتَ الثقافة حَكَمْتَ الشعب، وهذا ما هو حاصل الآن. يومياً وفي كل لحظة، وقبل وخلال وبعد كتابة هذه المقالة المتواضعة، هناك السياسي والناشط الاجتماعي والعامل في مؤسسات المجتمع المدني؛ الجالس أو الواقف وربما الماشي وهو يفكر في انتقاء الكلمات الأكثر تحريفاً وترويضاً، الأكثر خفة وقابلية للهضم؛ أو العكس، حسب الطلب. ولعلَّ القارئ الآن يستغرب، ولربما يفكر: ألهذه الدرجة؟

نعم، لهذه الدرجة وربما أكثر، تخيل عزيزي أن كلمة واحدة فقط قادرة على قلب الوعي الثقافي لمجتمعات كاملة بشكل مرعب؛ فالكلمات تشكل وعيناً وتحكم فكرنا البشري، وتغير مفهومنا ورؤيتنا للعالم من حولنا. وقد لخص "روربرت فيسك "هذه القضية بصورة رائعة عندما قال: "لقد قاموا بصياغة حقائق العالم في قائمة من الأكليشيهات تُعرِّف لنا حياتنا وتبدد لنا فكرنا وخيالنا وتجعلنا نُظهر الولاء لأصحاب السلطة".

فلا أحد حقاً يفهم هذا الأمر أكثر من السياسيين والإعلاميين وصُنَّاع القرار، فهُم أسياد الكلام واللغة، لأنهم يدركون تماماً أن الكلمة مهمة جداً وتحمل الكثير بين حروفها، وباللهجة الدارجة (بتفرق). ولذلك تجدهم يسعون دوماً لإبهاجنا وتحسين نفسياتنا، وجعلنا أكثر انسياقاً وراء سياساتهم، من خلال البحث الدؤوب عن ألطف التعبيرات وأقلها قسوة، واستبدال المصطلحات والتعبيرات القاسية بها؛ وذلك للتخفيف من حدة الكلمات وللتقليل من فظاظة وقسوة الواقع المعاش؛ أو تجدهم يفعلون العكس تماماً إن كان الهدف من الخطاب هو شحن الجماهير واستفزازهم.

والحق أقول إنهم ينجحون بجدارة في جعلنا أكثر قابلية لتقبل وهضم الواقع الصعب الذي نحياه، في الحقيقة هذه الكلمات والتعبيرات والمصطلحات الناعمة أو "الكيوت" كما توصف بشكلٍ ساخر، هي ليست أكثر من خدع لغوية هدفها ترويض الشعوب وإبقائها تحت السيطرة؛ وبذات الوقت ينجحون أيضاً وبجدارة في شحننا واستفزازنا لغايات تحقيق مصالحهم.

لن أطيل في شرح الفكرة في إطارها النظري لأن النظرية هي اختصاص النظريين، والقارئ العادي مثلي، لا يحب البحث في النظرية كثيراً إنما تشده الأمثلة الواقعية عليها، وهنا أسرد عدداً منها لعلها تكون قادرة على إيصال الفكرة واستثارة الوعي قدر الإمكان.

·        فمثلاً: يقوم الاحتلال الصهيوني (حسب روايته) ببناء "حاجز/سياج أمني" في الضفة الغربية بهدف إنقاذ حياة المواطنين "الإسرائيليين" الذين يستمر استهدافهم من قبل الحملة "الإرهابية" التي بدأت عام 2000؛ ومن جهة أخرى يرى بعض الفلسطينيين أن جدار "الفصل العنصري" (لاحظ أن هذا المصطلح يفيد الإيهام بأن الفلسطينيين والإسرائيليين شعبٌ واحد يفصل بينه العنصر/العِرق) ما هو إلا محاولة إسرائيلية لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين وإعاقة النمو الاقتصادي من خلال عرقلة حركة البضائع بين مدن الضفة الغربية؛ ومن جهة أخرى يرى الفلسطينيون الآخرون أن جدار "الضم والتوسع" ما الهدف منه إلا ضم عدد كبير من السكان الفلسطينيين (حوالي 109000 فلسطيني) بشكل غير قانوني إلى الأراضي المحتلة، أو تطويقهم داخل الجدار، مما يُكرِّس تقسيم السكان على أساس عرقي وفصل المواطنين الفلسطينيين عن بعضهم، وإعاقة حركتهم من خلال فرض حظر التجول والإغلاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية مما سيؤدي إلى توسع الوجود الصهيوني في الضفة الغربية وزيادة عدد المستوطنات فيها. (لاحظ الاختلاف في استخدام المسميات لذات الشيء وهو "الجدار" في هذا المثال).
·        وفي الآونة الأخيرة استطاعت الشركات النفطية والصناعية الضخمة في العالم، تحوير الرأي العام وتقليل الاهتمام بالاحتباس الحراري (Global Warming) من خلال استخدام مصطلح "كيوت" آخر لوصف نفس الحالة – مع التأكيد على عدم مناسبته لوصف هذه الحالة – حيث أنها مشكلة خطيرة تهدد الوجود الإنساني والحيواني والنباتي على كوكب الأرض، حيث صار يطلق عليها مصطلح التغيرات المناخية (ChangeClimate ) والذي في مضمونه لا يعني أي شيء على الإطلاق لأن المُناخ يتغير دائماً.
·        "التمييز العنصري" ببساطة يُستبدل بمصطلح آخر ليصبح "التمييز الإيجابي"، وذلك مثلاً عندما يريد رب العمل أن يشغل فقط فئة معينة من المتقدمين للعمل، أو عندما تريد المؤسسة التعليمية استقبال فئة أو عدد معين من الطلاب، حيث تصبح بين ليلة وضحاها هذه الفئة تستحق تمييزاً إيجابياً لصالحها لاعتبارات ومبررات كثيرة، رب العمل/المؤسسة التعليمية/أو غيرهما أقدر مني على اختلاقها.
·        ولا نتفاجأ عندما تجد أن صناعة الإباحية "Pornography" صارت تسمى ترفيه البالغين "Adult Entertainment"؛ فيما صار يُطلق على مؤديي الأفلام الإباحية "Porn Performers" مصطلح فيه نوع من التلميع والدلالة على عادِيَّة هذه الوظيفة وهو نجوم الإباحية "Pornstars".
·        وللتلطيف أيضاً نَصِفُ شخصاً أو فعلاً بأنه "متسامحٌ أخلاقياً" بدلاً من أن نقول بلغة واضحة وصادقة أنه ببساطة "لا أخلاقي".
·        ولربما مرت عملية "تجزئة" جثة "جمال خاشقجي" مرور الكرام، علينا بدلاً من "تقطيعها" وفقاً لبيان النائب العام السعودي.
·        وللتخفيف من حدة الرأسمالية والنيوليبرالية وممارساتها المقيتة والاستعبادية في حق الشعوب؛ صارت "الخصخصة" تسمى "توسيع نطاق الملكية".
·        حسناً ما بال "الـ......" المصرية ضد الرئيس السابق محمد مرسي؟ عفواً، أهي ثورة؟ (حسب الحكومة)؛ أم "انقلاب عسكري" (حسب الإخوان)؟  ... "الانقلاب" العسكري في غزة (حسب السلطة الفلسطينية)؟ أم "الحسم" العسكري في غزة (حسب حكومة حماس)؟
·        هل القيام بعمليات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي يعتبر "مقاومة"؟ أم "إرهاب وأعمال عنف وتخريب"؟

وأحياناً تكون إضافة كلمة إلى مسمى ما، تغير مضامينها بشكل كبير، مثلاً:
·        "مقاومة"، كلمة تعبر عن قوة وجهد وقسوة وقتال، ولكن بإضافة كلمة بسيطة إليها مثل "شعبية" أو "سلمية" ينقلب المعنى رأساً على عقب.
·        كلمة "عدالة" والتي تعني حصول الفرد على ما يستحق دون أي منَّة أو فضل من أحد ودون أن يكون متميزاً أو مفضلاً على غيره؛ بإضافة كلمة "اجتماعية" عليها لتصبح "عدالة اجتماعية" ينقلب المعنى فوراً إلى سياق آخر، وهو حصول الفرد على ما لا يستحق وذلك فقط لوجوده ضمن مجتمع فيه مَن لهم مِنَّة و/أو فضل عليه، ولكونه مميزاً ومفضلاً على غيره من العالمين نظراً لارتباطه في هذا المجتمع.
·        بالمناسبة بعد استلام "باراك أوباما" لرئاسة الإدارة الأمريكية صارت "حرب أفغانستان" بين ليلة وضحاها تُسمى "عملية طوارئ"!
·        ومن الأمور المثيرة للسخرية أن منهم من هو متفائل "طقسياً" حيث أصبح الجو الغائم جزئياً مشمساً جزئياً!!

في الواقع الأمثلة لا تعد ولا تحصى في هذا المجال، وحيث أن الهدف الأساسي من هذه المقالة كان سرد المصطلحات وبدائلها كأمثلة، وإيماناً مني بأن المثال هو البوابة الأوسع والأهم لفهم الفكرة؛ كان تركيزي على سرد المصطلحات أكثر من تركيزي على مناقشة الموضوع من الناحية النظرية.
ونعود إلى عنوان المقالة، "ما الذي تخفيه الكلمات؟" .. ببساطة كل شيء.

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019