الخميس، 27 ديسمبر 2018

هل يمكن أن تُغيِّر الإباحيات دماغك؟

مصدر الصورة

يتفق الكثير من الباحثين في مجال علم الأعصاب واللدونة/المرونة العصبية[1] على أن الاستهلاك المتكرر للمواد الإباحية يعمل حرفياً على إعادة تشكيل المسارات العصبية في الدماغ. حيث يؤدي استهلاك المواد الإباحية إلى تحفيز الدماغ على ضخِ مزيجٍ من المواد الكيميائية وبناء مسارات عصبية جديدة، مما يؤدي إلى تغيرات عميقة ودائمة في الدماغ.

صدق أو لا تصدق، تشير الدراسات إلى أن أولئك الذين يستهلكون المواد الإباحية على نحو متكرر لديهم أدمغة أقل اتصالاً، وأقل نشاطاً، بل وحتى لديهم أدمغة أصغر في بعض المناطق مقارنة مع غيرهم من الأصحاء.
ولكي نكون منصفين، فإن الدراسات تشير فقط إلى وجود علاقة متبادلة بين استهلاك الإباحية والأدمغة الأصغر والأقل نشاطاً، ولكنها تثير السؤال: هل يمكن حرفياً أن تغير المواد الإباحية عقلك؟
كان العلماء قديماً يعتقدون أنه بمجرد انتهاء مرحلة الطفولة، فإن الدماغ يفقد القدرة على النمو. فقد ظنوا أن لا شيء سوى المرض أو التعرض لإصابة يمكنه أن يغير دماغ البالغين فيزيائياً. ولكننا الآن بتنا نعلم أن الدماغ يستمر في التغير والنمو طوال فترة الحياة. حيث يعمل باستمرار على إعادة تشكيل نفسه وبناء مسارات عصبية جديدة، وهذا الأمر يحدث بشكل خاص في فترة الشباب.
يتكون الدماغ من حوالي 100 مليار عصبون تسمى الخلايا العصبية، وظيفتها نقل الإشارات الكهربائية ذهاباً وإياباً بين أجزاء الدماغ، وإلى بقية أعضاء الجسم. فمثلاً تخيل أنك تتعلم العزف على وتر (E) على الغيتار، عندها سيرسل دماغك إشارة إلى يدك يخبرها بما يجب عليها فعله. وبينما تنطلق هذه الإشارة من خلية عصبية إلى أخرى، تبدأ الخلايا العصبية المُنشَّطة بتشكيل العلاقات؛ لأن "الخلايا العصبية التي تنطلق معاً، ترتبط معاً". فتُشكِّلُ تلك الخلايا العصبية المرتبطة حديثاً ما يسمى "مساراً عصبياً".
ولتوضيح الفكرة أكثر، دعنا نتخيل أن المسار العصبي مثل طريقٍ تُرابيٍّ في غابة، ففي كل مرة يستخدم شخص هذه الطريق، تصبح أكثر اتساعاً ووضوحاً. وكذلك الأمر بالنسبة للمسارات العصبية، ففي كل مرة تنتقل فيها رسالة عبر مسارٍ عصبي في الدماغ، يُصبح المسار أقوى. ومع المزيد من التكرار، سيصبح المسارُ العصبيُ قوياً جداً بحيث يمكنك أن تبدع في العزف على هذا الوتر بدون التفكير في الأمر. إن هذه العملية من بناء مساراتٍ عصبيةٍ جديدة أفضل وأسرع للخلايا العصبية؛ هي كيفية وآلية تعلمنا لأي مهارة جديدة، سواء كانت حل المعادلات الرياضية أو تعلم قيادة السيارة. الممارسة تجعلنا متقنين للمهارة الجديدة [أو كما يقال: التكرار يُعلِّم الشُطَّار].
ولكن هناك ما يجب معرفته. فدماغك هو عضوٌ شرهٌ جداً، قد يزن فقط 2٪ من وزن جسمك، لكنه يستهلك حوالي 20٪ من الطاقة والأكسجين، إضافة إلى ذلك فإن هنالك ندرة موارد في دماغك، حيث أن المنافسة شرسة للغاية بين المسارات العصبية في الدماغ، وتلك المسارات التي لا يتم استخدامها بشكلٍ كافٍ فإنها ستواجه نصيبها من الاستبدال، وفقاً لمبدأ "استخدمها أو اخسرها"، أو كما يقولون: البقاء للأقوى.

وهنا تدخل المواد الإباحية في صلب الموضوع.
تعتبر المواد الإباحية ذات قدرة عالية جداً في بناء وتشكيل مساراتٍ عصبيةٍ جديدة في الدماغ. في الواقع، فإن الإباحية مُنافِسةٌ شرسةٌ لا يكاد أي نشاط آخر قادرٌ على أن ينافسها، بما في ذلك ممارسة الجنس مع شريك حقيقي! حيث يمكن للإباحية في الواقع التغلب على قدرة الدماغ الطبيعية على ممارسة الجنس الحقيقي! لماذا؟ يشرح الدكتور "نورمان دويدج" الباحث في جامعة كولومبيا ذلك، حيث يقول: إن المواد الإباحية تخلق الظروف المثالية وتحفز إطلاق المواد الكيميائية اللازمة لإجراء تغييرات دائمة في الدماغ.

الظروف المثالية لبناء المسارات العصبية الجديدة في الدماغ.
إن الظروف المثالية لتشكيل مسارات عصبية قوية هي عندما يكون دماغك في ما يسميه العلماء "حالة التدفق". إن التدفق هو "حالةٌ مُشبِعَة للغاية من الانتباه المُركَّز"، فعندما تكون في هذه الحالة "التدفق"، تتعمق كثيراً في ما تفعله ولا يبدو أن أي شيء آخر قد يثير انتباهك أو اهتمامك. ربما تكونُ قد خبرتَ هذه الحالة من قبل، أثناء ممارسة لعبة ما؛ أو وأنت تجري محادثةً مثيرةً مع أحد الأصدقاء؛ أو تقرأُ كتاباً رائعاً، فإنك تكونُ شديدَ التركيز على ما تفعله، لدرجة أنك تفقد احساسك بالوقت، وتشعر كما لو أن كل شيء من حولك يختفي، وتود لو يستمر ذلك الفعل إلى الأبد. ببساطة هذه هي "حالة التدفق".
بينما تكون في حالة التدفق، فإن ذلك كما لو أن لديك قدراتٌ فائقةٌ جداً، عندما يبدو أنكَ تفعلُ كلَّ شيءٍ بشكل صحيح، ويكون تركيزك مكثفٌ، وذاكرتك في أشد قوتها. وبعد مرور سنوات، ستظل تتذكر الحوار الذي أجريته بدقة، أو تفاصيلَ ما كنتَ تقرأه.
تخيل الآن شخصاً ما، يجلسُ أمام الكمبيوتر عند الساعة الثالثة صباحاً، يُشاهد المواد الإباحية. إن هذا الشخص يكون منغمساً تماماً في نشوة المشاهدة، بحيث لا يمكن لأي شيء آخر أن يستحوذ على اهتمامه، ولا حتى النوم. حيث يكون في حالة مثالية لتشكيل وبناء مسارات الخلايا العصبية الجديدة، ومع الانتقال من صفحة إلى أخرى بحثاً عن الصورة المثالية، مع عدم الإدراك بأن كل صورة تتم مشاهدتها تعمل على تعزيز المسارات التي يتم بناؤها وتشكيلها في دماغه؛ يتم تخزين تلك الصور بعمق في دماغه، حيث أنه سوف يتذكرها لفترة طويلة جداً، ربما طيلة حياته.

كوكتيل المواد الكيميائية التي تفرز في الدماغ.
مثل المواد والسلوكيات الإدمانية الأخرى، تعمل المواد الإباحية على تنشيط جزء من الدماغ يسمى "مركز المكافأة"، مما يتسبب في إطلاق كوكتيل من المواد الكيميائية التي تمنحك شعوراً مؤقتاً وقوياً بالنشوة (لتعرف أكثر اقرأ: الإباحيات والمخدرات .. تأثيرات متشابهة على الدماغ!). واحدة من هذه المواد الكيميائية في هذا الكوكتيل هو بروتين يدعى دِلتا فوس بي "DeltaFosB".
قلنا سابقاً أن بناء مسارات الخلايا العصبية في الدماغ هو مثل بناءِ طريق في الغابة، أليس كذلك؟ حسناً، "DeltaFosB" يشبه مجموعةً من متسلقي الجِبال يحملون اللقاطات والمعاول، ويعملون مثل القنادس لبناء طريق. ومع تدفق بروتين "DeltaFosB"، يستعد الدماغ لصناعة علاقات قوية بين استهلاك المواد الإباحية والمتعة التي يشعر بها المستهلك أثناء الاستهلاك. ببساطة، يشبه الأمر كما لو أن بروتين "DeltaFosB" يقول: "هذا شعور جيد. دعونا نتأكد من تذكر هذا السلوك حتى نتمكن من فعله مرة أخرى للشعور بالمتعة".
يعتبر بروتين "DeltaFosB" مهماً لتعلُّم أي نوع من المهارات الجديدة، ولكنه يمكن أن يؤدي أيضاً إلى سلوكيات إدمانية/قهرية، خصوصاً عند المراهقين. حيث يشار إلى "DeltaFosB" باسم "المفتاح الجزيئي للإدمان"، لأنه إذا تم تدفقه بما يكفي في الدماغ وقام ببناء ما يكفي من الممرات العصبية الجديدة، فإنه يقوم بتفعيل الجينات التي تخلق الرغبة الشديدة على المدى الطويل، مما يدفع المستخدم إلى العودة للحصول على المزيد. وبمجرد إفراز هذا البروتين فإنه يَعلَقُ في الدماغ لأسابيع أو أشهر، وهذا هو السبب في أن مستهلكي المواد الإباحية قد يشعرون بالرغبة الشديدة في معاودة الاستهلاك حتى بعد فترة طويلة من توقفهم عن المشاهدة.
والخبر السار هو أن اللدونة/المرونة العصبية تعمل في كلا الاتجاهين[2]؛ بحيث إذا لم يتم تعزيز المسارات العصبية التي تم بناؤها للمواد الإباحية، فسوف تختفي في النهاية، لذلك يمكن لآليات الدماغ نفسها التي تعمل على بناء المسارات العصبية للمواد الإباحية أن تستبدل هذه المسارات العصبية بمسارات جديدة لشيء آخر.

ترجمة: محمود ترابي.





[1]  اللدونة/المرونة العصبية (Neuroplasticity): هي قدرة الدماغ على إعادة تنظيم وتشكيل نفسه عن طريق تكوين روابط عصبية جديدة طوال فترة حياة الكائن الحي [المترجم].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019