الثلاثاء، 21 مارس 2017

أخي قال لي: "لا تُصدقهم، أنت غبي"



عندما كنتُ طفلاً وصفتني عائلتي والكثيرون من المحيطين بي بالكثيرِ من الكلماتِ التي تدلُّ على الذكاء، مثل: "ذكي، عبقري، دقيق الملاحظة، لمَّاح، رهيب، أبو مخ ...إلخ"، إلا أن أخي الذي كان يكبُرني ببضعِ سنين شَعَرَ حينها بما يُغيظه في كل هذا، واشتعلتْ نارُ الغيرةِ في قلبِه، حيثُ كانت كلُّ هذه الأوصاف تُطلق عليه سابقاً، وأظن أن أكثرَ ما أغاظَهُ منها عندما قالوا عني: "أذكى من أخوه"، فأحسَّ الآن بأن هنالك من صار ينافسه على اكتسابها! فكرهني بحق!

وللانتصار لنفسه صارَ يتعمَّدُ دوماً أن يصِفَني بكلِّ ما يدلُّ على الغباء، وأن يُقلل من قُدراتي ومعرفتي، وأسوأ ما فعله بي هو عندما ظلَّ يقولُ لي دوماً: "ما تصدقهم، بكذبوا عليك، أنا الذكي مش أنت، وأنا أذكى منك، هم بحكوا هيك بس عشان يبسطوك، ولأنهم شفقانين عليك لأنك حمار". لقد أوقعني كلامه هذا في حيرة كبيرة حينها، واهتزَّت كل أفكاري، من سأُصدِّق أخي أم الآخرون؟ هل أنا حقاً غبي؟ هل حقاً كانوا يكذبون عليّ؟ ... وفي النهاية فقدت الثقة في نفسي، وصدقته!

لقد صدَّقتُ أنني غبي، أو على الأقل غبيٌ بالمقارنة به، لكنني لم أستسلم لذلك، وللانتصار لنفسي، وأملاً في استرداد ثقتي التي فُقِدَت مني؛ صِرتُ أتحدى نفسي وأخي لكي أكون الأذكى.

لقد كانت طفولتي حافلةً بالتنافس والتحدي. ارتفع جو التنافس بيننا وامتلأتُ بالشغف، الشغف نحو المعرفة، أو ربما الهَوَس! فظلَّت تُلازمني الرغبة في المعرفة وزيادة مستوى الـ "IQ" الخاص بي. انطلقتُ بدايةً نحو التجربة، بدأتُ أُجرِّبُ كلَّ شيء، وأتعلَّمُ من المحيط الذي كنتُ أعيشُ فيه، فقط لأُثبِتَ لنفسي ولأخي أنني الأذكى.

اصطدتُ عقرباً ذات يوم وسجنته في علبةٍ لكي أراه عن قرب، قصصتُ ذيله لأرى كيف سيلسع بعد الآن، حملته بيدي ولم يلسعني، فاحتفظتُ به في العلبة، إلى أن رآه أبي فقتله.

أردت أن أعرف أهمية الشوارب للقطة، فقصصتُ شواربها، بعد أيام عادت ووجهها مليء بالندوب، لم أعرف السبب يومها، أو الرابط بين قصي للشوارب وبين هذه الندوب، إلى أن قرأتُ مقالةً عن أهمية الشوارب للقطط فعرفتُ فيما بعد. ومرةً أخرى قصصتُ لها أظافرها بدافع النظافة طبعاً، فتغيرت مشيتها!

حاولتُ أن أُشرِّحَ دجاجة ميتة لأتعرف على ما تحتويه، فلطالما شغلتني الأشياء المختفية في الداخل، الأشياء التي لا نراها، ولكنها السبب الرئيس وراء كل ما نراه. ثم بعدها انتابني الفضول لكي أرى أعضاءها وهي على قيد الحياة وخصوصاً القلب، فشققت بطن دجاجة حية ورأيتُ قلبها وهو ينبض لبضع ثوانٍ قبل أن تفارقها الحياة، لقد كان انتصاراً كبيراً يومها وتجربةً مليئة بالشغف!

تعلَّمتُ أن أُفكك الألعاب وأستخرج منها الأضواء والمحولات والبطاريات، ثم صنعت بها أول دائرة كهربائية بسيطة لوحدي، بالمناسبة لقد صعقتني الكهرباء في طفولتي أكثر مما صعقت فنيي الكهرباء!!

تعلمت أن أصنع صمغاً طبيعياً من صمغ شجرة المشمش الكبيرة التي كانت في حديقة بيتنا، ثم بدأت بجمع الصمغ من كل الأشجار الأخرى كاللوز والسرو، لقد كان صمغ السرو أكثر أنواع الصمغ قوة! إلا أن ما يُعيبه هو صلابته الزائدة وسرعته في الجفاف مقارنة مع صمغ المشمش واللوز، وقد جُنَّ جنون أخي حينها لأنني لم أقبل أن أعلمه كيفية التصنيع؛ مما دفعه لأن يبول في علبة الصمغ التي استغرقت مني أشهراً في صناعتها. بكيتُ كثيراً يومها، حين كان يضحكُ مني ساخراً.

تعلمتُ أن أُفكك جهاز الكمبيوتر قطعة قطعة، ثم أعيد تركيبه من جديد، تعلمتُ الكثير من خُدع الكمبيوتر وبرمجياته وآلية عمل أنظمة التشغيل وبرامج التشفير والاختراق (Hacking)، فقمت ابتداءً باختراق حاسوب أخي الأكبر وإيميله، ولم أجد لديه ما يُثير الاهتمام. بعد ذلك أكملت هوايتي في الاختراق إلى أن أعددت قائمة تعدت الأربعمائة حاسوب وإيميل قمتُ باختراقها، إلى أن أصابني الملل وآلمني ضميري فقررتُ أن أنأى عن هذه المعرفة وأنقطع عن متابعتها، وقد نجحت في ذلك جيداً نظراً للتطور الكبير الذي وصَلَتْ إليه التكنولوجيا وأنظمة الحماية والأمان وعدم متابعتي لهذا التطور.

عندما صار عمري أربعة عشر سنة، انتبهتُ إلى أن هناك في مخزن بيتنا مكتبةٌ كبيرةٌ جداً ومليئةٌ بشتى أصناف المعرفة، فصِرتُ أقتل الوقت بالقراءة، كانت القراءة في البداية بدافع الاستطلاع والترويح عن النفس، لم أكن قارئاً منتظماً أو جيداً، لم أكن أهتم كثيراً بما أقرأه، ثم ما لبثتُ أن بدأتُ بالتهام الكتبِ التهاماً، فقد كانت تفتحُ أمامي عوالمَ كبيرة وواسعةً جداً، وأهمُ ما في الأمر أن القراءة جعلتني أتفوَّقُ بشكلٍ كبيرٍ جداً على أخي. لقد سبقتهُ بأميالٍ طويلة، وأخيراً حققتُ ما كنتُ أصبو إليه: صرتُ أذكى منه وأكثرُ ثقافةً وأغزرُ خيالاً.

وبالرغم من أننا صِرنا بالغَين اليوم ولم نعد طفلين يتناوشان ويتنافسان على الذكاء والمعرفة، بالرغم من أن التنافس الذي كان بيننا صار تحالفاً، وبالرغم من أننا صرنا صديقين حميمين جداً اليوم، إلا أنه لا يزال يُنكر ذلك، يُنكر تفوقي عليه، ولا ينفكُ يقولُ لي: "بالرغم من أنني أذكى منك، إلا أنني أعترف بأنك أذكى من قابلتُ حتى الآن".

منذُ أشهرٍ قليلة، أفصح لي عن نيته بأن يبدأ بالقراءة. ولذا أظنني الآن بحاجة إلى إخفاء كُتُبي المهمة عنه، والبدء بقراءة عددٍ كبيرٍ من الكتب الجديدة لكي أُحافظ على تفوقي.

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019