الجمعة، 23 ديسمبر 2016

إنه صديقيَ واسمُهُ يُشبِهُ اسمِي



كنتُ أريدُ طوالَ عمري أن أطيرَ، وكانَ لديَ جناحانِ أبيضَانِ جميلانِ، وحلمٌ بأنني عصفورٌ في رِحابِ السماءِ أحلِّق، أحلمُهُ كلَ ليلةٍ قبلَ أن يضغطَ النومُ بأصابِعِهِ الثقيلةِ على عينيّ ..

إيييه .. حياتي صندوقُ ذكرياتٍ وأحلامٍ مؤجلةٍ، والماضي ثقبٌ أسودٌ يسحبني إِلَيْهْ فتسحقني الكآبة. خمسُ شعراتٍ في مقدمة رأسي شِبن فجأة، ومؤخراً، حين كان الحلاق يقص شعري، قال لي: "ما زلتَ في عزِّ الشبابِ يا رجل، فمن أين أتى كلُّ هذا الشيبُ في رأسك؟!" فسألته إن كان يقصد الشعرات الخمس، فقال: "لا، هنالك شعراتٌ أُخَر" وصار يعدها ويشير بإصبعه إليها. وبينما كان يفعل ذلك كنتُ أنظر في المرآة أتأملُ ملامحَ وجهي التي غاصت وماجت وأكلتها التجاعيد، وأَغمضتُ عيني أُحاول أن أتذكر كيف كان شكلي .. يا الله! كأن وجهي ليس لي!

أنظرُ إلى صورتي قبل ست سنوات، فأجدني قد كنتُ شاباً يافعاً مُشرقَ الوجه، يملأه الجمال ودعة النفس، واليوم كلما واجهت نفسي في المرآة ازدادت كآبتي .. أفكرُ بالانتحار .. تلازمني الفكرةُ منذُ سنواتٍ، ولكَثْرَةِ ما قَلَّبْتُها في رأسي؛ أكلني الصُداع. وقررتُ ذاتَ مرةٍ أن أحسمَ الأمرَ وأنتحرَ، واضعاً حداً لمعاناتي.


أقفلتُ بابَ غرفتي وألقيتُ بالمفتاحِ على جبل النفايات التي تراكمت منذ شهور على أرض الغرفة، أحكمتُ إغلاقَ النوافذ، وأسدلتُ الستائرَ لتستر ضعفي وبؤسي، حملتُ في يدي عشرين حبة "أسبيرين"، وكأسَ الماءِ في الأخرى، وقلتُ لنفسي: "أبتلعُ الحبوبَ ثم أنامُ إلى الأبد".

وما إن اقتربت يدي من فمي، حتى قفزَ السؤالُ فجأةً أمامي: وماذا بعدَ الموت؟!

لديَ الكثيرُ من الأمراضِ العويصةِ والمشاكلِ المعقدة، وأشدُّها تعذيباً لي التفكيرُ الطويلُ الزائدُ عنِ الحد في أبسط الأمور وأعقدها، في أقلها شأناً وأعظمها، كأن أفكر أحياناً في عدة أسئلة ساذجة إلى حد السخف، مثل: "لماذا لا يطير النمل؟ ولماذا هذه الجناحات الرقيقة للفراشة؟ لماذا يحفرُ الخلدُ جحره تحت الأرض؟ وكيف للطائر أن يكون مفترساً؟ لماذا نصير من بعد الموت غباراً؟ وبأي حقٍ يأكل الدودُ هذا الجسدَ المفرِط بالدقة والتعقيد؟! ماذا لو لم يأكل الدود أجسادنا؟"

وأجدني غيرُ قادرٍ على فهم أي شيء دون أن أفلسفه فكرة فكرة، وأفككه قطعة قطعة، ثم أعيد ترتيبه من جديد؛ ومع ذلك فإن معظم الأشياء غالباً ما تظلُّ عصيةً على الفهم! ويزداد عذابي بالذات أمام القضايا والأسئلةِ الوجودية التي لا حلَ لها، كفكرةِ الموتِ مثلاً، فما إن سألتُ نفسي ذاك السؤال؛ حتى اندلع لهيبُ الأفكار في رأسي.

شهقتُ كالملسوعِ وتَجَهَّمَ وجهي كما لو رأيتُ شبحاً، تأمَّلتُ الحبوبَ في يدي ثم نَفَضْتُها، ووضعتُ كأسَ الماءِ على المنضدةِ. أحسستُ بجيشٍ منَ النملِ يرقصُ فوقَ جلدي، وخدرٍ يسري في أطرافي، وفجأةً ما عادت قدماي تُطيقان حملي، فوقعت في أرضي، وملامحُ الصدمةِ ما زالت على وجهي، وشعورٌ بالشوقِ لصديقٍ قديمٍ تملكني. ثم خطرت فكرةٌ مجنونةٌ في رأسي الصغيرِ المُضحكِ، كحبةِ الشمام كما اعتادوا أن يسخروا مني عندما كنت طفلاً.

وقفت، مشيت نحو الكرسي وأزحتها إلى وسط الغرفة، وضعتُ عليها وسادةً، ألبستها سترتي وقبعتي وبِنطالي، جلبتُ حذائي، وضعتُه تحت الكرسي، ودسستُ فيه أطرافَ البنطالِ. جلستُ على طرفِ السريرِ، ووجَّهتُ وجهي لصديقيَ الذي خلقتهُ منذ قَليل، أقنعتُ عقلِيَ، أنني لستُ مجنوناً، إنما أخاطبُ شخصاً يجلسُ أمامي، إنه صديقيَ، صديقي هو بعينه، لا مجال للشك، أعرِفُهُ جيداً، شكْلُهُ هكذا، اسمُهُ يُشبِهُ اسمِي، يُخفي وَجْهَهُ تَحتَ القبعةِ، هذه هي طبيعتُهُ، إنه خجولٌ نوعاً ما، فلا بأس.

وخضت في الكلام كما تخوض السفن في محيطٍ لا ينتهي، وقد قلت مما قلت، مخاطباً صديقي: " تخيل يا رجل ماذا قال لي مرشدي النفسي اليوم! يقول لي: إنه عليَّ أن أعتذر دوماً من كل خطأ أرتكبه، وكل ابتسامة باردة أبتسمها. وإنه عليَّ أن أحافظ على الناس من حولي، وأن أعُد للعشرة قبل أن أتفوه بأي حماقة! وأن أعطي لمن أحبهم كلَّ ما عندي، وأن أسعى لبناء علاقاتٍ حقيقيةٍ مع الناس. فقلتُ له بعد أن أثار قَرَفي ونفخ رأسي بالكلام المبتذل: حسناً .. سأظلُ أخطئ، وسأعتذر في كل مرة. والخطأ القادم الذي سأعتذر منه، عندما أقتلك. فانفجر ضاحكاً! .. يخرب بيته ما أبرده!! ... وفي الأمس يا صديقي، بينما كنتُ أمشي مسرعاً لقضاءِ أمرٍ تافهٍ جداً، تعثَّرتُ وكِدتُ أقعُ أرضاً، لولا أنني أسندت نفسي بلحظةٍ خاطفة وتمسَّكتُ بالحائط؛ فانخلع مفصلُ كتفي من مكانه وصارت هيئتي تشبه "الزومبي". حسناً، ليس هذا ما همني حينها، بل الألم الفظيع الذي تقريباً شلَّ نصفَ جسدي، فارتميتُ أرضاً، وبعد محاولاتٍ حثيثة نجحتُ في إعادة مفصلي إلى مكانه، فعادت هيئتي إلى طبيعتها. وحين تذكرتُ كيف كان شكلي، انفجرت ضاحكاً! ولكن الأهم من كل هذا هو أنني لم أجد أحداً لأخبره بما حصل، وأصف له كيف كان شكلي؛ لنضحك سوية على هذا الحدث التافه".

وبينما كنتُ أتحدث أنا بحماسة ولهفة، كان صديقي ينظر إليَّ صامتاً ساهماً، ولم أعرف بماذا كان يفكر حينها، فاشتد الأسى على قلبي، ولسَعَت المرارةُ حلقي، فقلت: "حسناً، أعترف بأنني صديقٌ سيءٌ جداً، وأخٌ مثيرٌ للشغب، وابنٌ ضالٌ مزعج، وعاشقٌ أحمق. وأظن أنني سأكون زوجاً حقيراً لو تزوجت، ومثالاً تاريخياً للأب الطالح فيما لو أنجبتُ أطفالاً، لربما أفوقُ "جان جاك روسو" حقارةً في هذا الشأن. وأعترف أيضاً أنني لا أعرف أي معنىً للعلاقات الإنسانية أو هدفاً أو مغزى، وأنني لا أهتم بمشاعر الآخرين أو مشاعري، ولا أعطي لها بالاً، أو التفاتاً، ومهما حاولت إلى ذلك سبيلاً، فإنني دوما أجد الأمر شديدَ السُخف والابتذال. والحق أقول، لقد جرحتُ مشاعرَ مئات الناس دون أن يرف لي جفن. وعليك أن تعرف يا صديقي أنني حتى الآن ما زلتُ أبحثُ عن معنىً للحياة، وبيني وبيني، أتساءل بعد كلِّ هذا: لماذا ما زلتُ حياً بحق الله؟!"

ثم صمتُّ وامتد الصمتُ أمامنا طويلاً شاسعاً يثيرُ الحنق، كصحراء باردة تخلو من كل شيء عدا الكآبة والأسى، فغطيت وجهي بيدي وبكيت بمرارة وألم. وبينما كنت أنشُج وأفرِّغ ما في قلبي من بؤس وهلع، نطق صديقي أخيراً، وقال مما قال: "... بإمكانك أن تكونَ معهم، أن تحادثهم، تمازحهم، تبكي جراحهم، تسمع همومهم. ولكن كن وحيداً ... ولو كنتَ بين ألفٍ، عليك أن تظل وحيداً ... وأن تكون أدقهم ملاحظةً، وأكثرهم شغفاً، وأجرأهم إلى القول، وأقواهم ... أن تلاحظ كل الأشياء وتفهمها. تسمع كل الأحاديث، جيدة كانت أم قاسية وتبتلعها. تسمع كل الأصوات عذبة كانت أم نشازاً، وتتظاهر بأنك تترنم طرباً ... مبتسماً دوماً، شاهراً أسنانك كسيفٍ إلى كلِّ النكات، مضحكة كانت أم بائخة ... وإن سألك أحدٌ عن الوحدة، فما عليك إلا الكذب ... وحين تعودُ إلى البيتِ وحيداً، احتضن سريرك، واسحب بطانيتك ببطءٍ واخلد إلى النوم، بعد أن تملأ رئتيك بالدخان..."

وبينما كان صديقي يحكي، كانت خيوط الشمس تتسللُ من خلفِ الستائر، كتسللِ اليدِ إلى فعلِ الحرام، وحين انتبهتُ لحضورها، قمتُ نحوها كمن اكتشف لتَوِّهِ جنايةً، وأبعدتُ الستائر فانفجر الضياءُ في المكان. ثم فتحتُ النافذة، فهبت علينا نسمات الصباح كما تهب عاصفةٌ على السفن الجارية في البحار فتقتلع أشرعَتها، فاقتُلِعت منا أشرعة الكلام، وكالصمت الرهيب بعد العاصفة صمتنا، وعندما لم أعد أسمع سوى الصمت، شعورٌ بالسكينة ألم بي، فوجدت نفسي كالتائه حين يجدُ برّ الأمان، قد هدأت سريرتي وانفك غمي وانزاح الهم عن قلبي. فقفزتُ كالمجنونِ واحتضنتُ صديقي، وبينما كنت أحتضنه وأشد عليه بذراعاي بقوةٍ، وجدته ينساب مني كانسياب الماء في الوديان، ويتبعثرُ كُلُ عضوٍ منهُ فِي جهةٍ، وبعد هنيهةٍ تلاشى كل شيءٍ كما يتلاشى الضباب، وانجلى المشهد أمامي وازداد وضوحاً وصفاء.

يا لبؤسِيَ! لوهلةٍ أجبَرني خيالي على التصديق بأن هذا هو صديقي، ولكنه حين تبعثر مني أعادني إلى الواقع، إلى حقيقة أنني أخدع نفسي وأسخر منها، وأنا الذي لم ينجح أحدٌ قط في خداعي، ولطالما كنت أنا الساخر الأخير من كل من ظنوا أنهم انتصروا عليّ؛ فغضبت لأن كل شيء لم يكن حقيقياً، وفكرت قليلاً وصرخت كالنائحة: "كل شيء زائفٌ، زائفٌ جداً، حتى أنا زائف، الزيفُ يَملأُني. يا رب، لماذا وهبتني هذا العقل ذا الجوع الأبدي، المؤرَّق، المُنهك، المُثقل بالأفكار، والألغاز غير المحلولة بعد؟ لماذا كل هذا؟".

وحين اشتد غضبي حملتُ كأسَ الماءِ عن المنضدةِ وكسرته، فوقعَ نظري على جبلِ النفاياتِ، ورأيت مما رأيت عشراتِ علبِ الأسبيرين الفارغةِ، ومئاتِ الحبوبِ المبعثرةِ، والكؤوسِ الكثيرةِ المكسورةِ كقلبي. استلقيتُ على السريرِ، احتضنتُ وسادتي، سحبتُ بطانيتي بتثاقلٍ وغطيتُ كلَ جسدي، غَمَمتُ رأسيَ تحتها وسالت دموعي، وعلا نحيبي إلى أن نمت.

أكرهُ الليلَ، والذكرياتِ، والماضيَ الذي يشدني، أكرهُ كل الحياة وكل الأحياء. الليلُ مروعٌ جداً، ويثير فيَّ الرغبةَ بالانتحار، الذكرياتُ عناكبُ عششت في زوايا الزوايا، تنهش قلبي بين حين وحين، أما الحياة فغابة، فيها وحوش كالبشر تتربص بي .. ولولا صديقي الذي أخدع به نفسي كل مرةٍ، لقتلتُ نفسيَ منذُ زمنٍ وانتهى الأمرُ. ولكنني يوماً ما، لن أنخدع. وسينتهي الأمرُ.

أكرهُ الليلَ، وأكرهُ صديقيَ.

هناك تعليق واحد:

  1. أكرهُ الليلَ، والذكرياتِ، والماضيَ الذي يشدني، أكرهُ كل الحياة وكل الأحياء. الليلُ مروعٌ جداً، ويثير فيَّ الرغبةَ بالانتحار، الذكرياتُ عناكبُ عششت في زوايا الزوايا، تنهش قلبي بين حين وحين، أما الحياة فغابة ..

    حقيقي وشفّاف .. آمل أن يتواجد النصّ قريباً على الساوند كلاود :)

    ردحذف

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019