الخميس، 27 ديسمبر 2018

ما الذي تخفيه الكلمات؟

مصدر الصورة
"الآن فقط، أي بعد فوات الأوان، أدرك الإنسان الخطأ الذي أشاعه بثقته الزائدة باللغة" (نيتشة).
"نحن لم نعد نستخدم الكلمات بل نوظفها، نتحدث عن تأثيرها لا عن معناها"، (روبرت فيسك).

الحرب الثقافية هي -أولاً وقبل كل شيء، وأخيراً وبعد كل شيء- حربٌ كلامية/لغوية. حقيقةً إنَّ لنا أن نسأل بجدية: ما الذي تخفيه كلمة؟ ما الكامن في بضعة أحرف؟ وهل عندما نستبدل الكلمات بغيرها تكون الكلمات الجديدة قادرة على إيصال المعنى ذاته؟ أم أنها وسيلة لتحريف الحقائق وتضليل المتلقين؟ هل من الجائز أن نتعامل/نتعاطى مع هذه الكلمات على أنها معانٍ للمعاني؛ دون أن نُلقي بالاً لدلالات الألفاظ؟

يعجُّ الخطاب الإعلامي والسياسي بمظاهر تطويع اللغة، تلطيفاً؛ وتغليظاً؛ وإيحاءً؛ وتمويهاً. وتتضمن دساتير الأداء لكبرى المؤسسات الإعلامية قواعدَ صارمة ومُلزمة في انتقاء الكلمات وكيفية صياغة الرسالة الإعلامية.

حسناً، يقال إنكَ إن حَكَمْتَ اللغة حَكَمْتَ الثقافة؛ وإن حَكَمْتَ الثقافة حَكَمْتَ الشعب، وهذا ما هو حاصل الآن. يومياً وفي كل لحظة، وقبل وخلال وبعد كتابة هذه المقالة المتواضعة، هناك السياسي والناشط الاجتماعي والعامل في مؤسسات المجتمع المدني؛ الجالس أو الواقف وربما الماشي وهو يفكر في انتقاء الكلمات الأكثر تحريفاً وترويضاً، الأكثر خفة وقابلية للهضم؛ أو العكس، حسب الطلب. ولعلَّ القارئ الآن يستغرب، ولربما يفكر: ألهذه الدرجة؟

نعم، لهذه الدرجة وربما أكثر، تخيل عزيزي أن كلمة واحدة فقط قادرة على قلب الوعي الثقافي لمجتمعات كاملة بشكل مرعب؛ فالكلمات تشكل وعيناً وتحكم فكرنا البشري، وتغير مفهومنا ورؤيتنا للعالم من حولنا. وقد لخص "روربرت فيسك "هذه القضية بصورة رائعة عندما قال: "لقد قاموا بصياغة حقائق العالم في قائمة من الأكليشيهات تُعرِّف لنا حياتنا وتبدد لنا فكرنا وخيالنا وتجعلنا نُظهر الولاء لأصحاب السلطة".

فلا أحد حقاً يفهم هذا الأمر أكثر من السياسيين والإعلاميين وصُنَّاع القرار، فهُم أسياد الكلام واللغة، لأنهم يدركون تماماً أن الكلمة مهمة جداً وتحمل الكثير بين حروفها، وباللهجة الدارجة (بتفرق). ولذلك تجدهم يسعون دوماً لإبهاجنا وتحسين نفسياتنا، وجعلنا أكثر انسياقاً وراء سياساتهم، من خلال البحث الدؤوب عن ألطف التعبيرات وأقلها قسوة، واستبدال المصطلحات والتعبيرات القاسية بها؛ وذلك للتخفيف من حدة الكلمات وللتقليل من فظاظة وقسوة الواقع المعاش؛ أو تجدهم يفعلون العكس تماماً إن كان الهدف من الخطاب هو شحن الجماهير واستفزازهم.

والحق أقول إنهم ينجحون بجدارة في جعلنا أكثر قابلية لتقبل وهضم الواقع الصعب الذي نحياه، في الحقيقة هذه الكلمات والتعبيرات والمصطلحات الناعمة أو "الكيوت" كما توصف بشكلٍ ساخر، هي ليست أكثر من خدع لغوية هدفها ترويض الشعوب وإبقائها تحت السيطرة؛ وبذات الوقت ينجحون أيضاً وبجدارة في شحننا واستفزازنا لغايات تحقيق مصالحهم.

لن أطيل في شرح الفكرة في إطارها النظري لأن النظرية هي اختصاص النظريين، والقارئ العادي مثلي، لا يحب البحث في النظرية كثيراً إنما تشده الأمثلة الواقعية عليها، وهنا أسرد عدداً منها لعلها تكون قادرة على إيصال الفكرة واستثارة الوعي قدر الإمكان.

·        فمثلاً: يقوم الاحتلال الصهيوني (حسب روايته) ببناء "حاجز/سياج أمني" في الضفة الغربية بهدف إنقاذ حياة المواطنين "الإسرائيليين" الذين يستمر استهدافهم من قبل الحملة "الإرهابية" التي بدأت عام 2000؛ ومن جهة أخرى يرى بعض الفلسطينيين أن جدار "الفصل العنصري" (لاحظ أن هذا المصطلح يفيد الإيهام بأن الفلسطينيين والإسرائيليين شعبٌ واحد يفصل بينه العنصر/العِرق) ما هو إلا محاولة إسرائيلية لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين وإعاقة النمو الاقتصادي من خلال عرقلة حركة البضائع بين مدن الضفة الغربية؛ ومن جهة أخرى يرى الفلسطينيون الآخرون أن جدار "الضم والتوسع" ما الهدف منه إلا ضم عدد كبير من السكان الفلسطينيين (حوالي 109000 فلسطيني) بشكل غير قانوني إلى الأراضي المحتلة، أو تطويقهم داخل الجدار، مما يُكرِّس تقسيم السكان على أساس عرقي وفصل المواطنين الفلسطينيين عن بعضهم، وإعاقة حركتهم من خلال فرض حظر التجول والإغلاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية مما سيؤدي إلى توسع الوجود الصهيوني في الضفة الغربية وزيادة عدد المستوطنات فيها. (لاحظ الاختلاف في استخدام المسميات لذات الشيء وهو "الجدار" في هذا المثال).
·        وفي الآونة الأخيرة استطاعت الشركات النفطية والصناعية الضخمة في العالم، تحوير الرأي العام وتقليل الاهتمام بالاحتباس الحراري (Global Warming) من خلال استخدام مصطلح "كيوت" آخر لوصف نفس الحالة – مع التأكيد على عدم مناسبته لوصف هذه الحالة – حيث أنها مشكلة خطيرة تهدد الوجود الإنساني والحيواني والنباتي على كوكب الأرض، حيث صار يطلق عليها مصطلح التغيرات المناخية (ChangeClimate ) والذي في مضمونه لا يعني أي شيء على الإطلاق لأن المُناخ يتغير دائماً.
·        "التمييز العنصري" ببساطة يُستبدل بمصطلح آخر ليصبح "التمييز الإيجابي"، وذلك مثلاً عندما يريد رب العمل أن يشغل فقط فئة معينة من المتقدمين للعمل، أو عندما تريد المؤسسة التعليمية استقبال فئة أو عدد معين من الطلاب، حيث تصبح بين ليلة وضحاها هذه الفئة تستحق تمييزاً إيجابياً لصالحها لاعتبارات ومبررات كثيرة، رب العمل/المؤسسة التعليمية/أو غيرهما أقدر مني على اختلاقها.
·        ولا نتفاجأ عندما تجد أن صناعة الإباحية "Pornography" صارت تسمى ترفيه البالغين "Adult Entertainment"؛ فيما صار يُطلق على مؤديي الأفلام الإباحية "Porn Performers" مصطلح فيه نوع من التلميع والدلالة على عادِيَّة هذه الوظيفة وهو نجوم الإباحية "Pornstars".
·        وللتلطيف أيضاً نَصِفُ شخصاً أو فعلاً بأنه "متسامحٌ أخلاقياً" بدلاً من أن نقول بلغة واضحة وصادقة أنه ببساطة "لا أخلاقي".
·        ولربما مرت عملية "تجزئة" جثة "جمال خاشقجي" مرور الكرام، علينا بدلاً من "تقطيعها" وفقاً لبيان النائب العام السعودي.
·        وللتخفيف من حدة الرأسمالية والنيوليبرالية وممارساتها المقيتة والاستعبادية في حق الشعوب؛ صارت "الخصخصة" تسمى "توسيع نطاق الملكية".
·        حسناً ما بال "الـ......" المصرية ضد الرئيس السابق محمد مرسي؟ عفواً، أهي ثورة؟ (حسب الحكومة)؛ أم "انقلاب عسكري" (حسب الإخوان)؟  ... "الانقلاب" العسكري في غزة (حسب السلطة الفلسطينية)؟ أم "الحسم" العسكري في غزة (حسب حكومة حماس)؟
·        هل القيام بعمليات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي يعتبر "مقاومة"؟ أم "إرهاب وأعمال عنف وتخريب"؟

وأحياناً تكون إضافة كلمة إلى مسمى ما، تغير مضامينها بشكل كبير، مثلاً:
·        "مقاومة"، كلمة تعبر عن قوة وجهد وقسوة وقتال، ولكن بإضافة كلمة بسيطة إليها مثل "شعبية" أو "سلمية" ينقلب المعنى رأساً على عقب.
·        كلمة "عدالة" والتي تعني حصول الفرد على ما يستحق دون أي منَّة أو فضل من أحد ودون أن يكون متميزاً أو مفضلاً على غيره؛ بإضافة كلمة "اجتماعية" عليها لتصبح "عدالة اجتماعية" ينقلب المعنى فوراً إلى سياق آخر، وهو حصول الفرد على ما لا يستحق وذلك فقط لوجوده ضمن مجتمع فيه مَن لهم مِنَّة و/أو فضل عليه، ولكونه مميزاً ومفضلاً على غيره من العالمين نظراً لارتباطه في هذا المجتمع.
·        بالمناسبة بعد استلام "باراك أوباما" لرئاسة الإدارة الأمريكية صارت "حرب أفغانستان" بين ليلة وضحاها تُسمى "عملية طوارئ"!
·        ومن الأمور المثيرة للسخرية أن منهم من هو متفائل "طقسياً" حيث أصبح الجو الغائم جزئياً مشمساً جزئياً!!

في الواقع الأمثلة لا تعد ولا تحصى في هذا المجال، وحيث أن الهدف الأساسي من هذه المقالة كان سرد المصطلحات وبدائلها كأمثلة، وإيماناً مني بأن المثال هو البوابة الأوسع والأهم لفهم الفكرة؛ كان تركيزي على سرد المصطلحات أكثر من تركيزي على مناقشة الموضوع من الناحية النظرية.
ونعود إلى عنوان المقالة، "ما الذي تخفيه الكلمات؟" .. ببساطة كل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019