الأربعاء، 3 أغسطس 2016

هل كنتَ تنتظرُ اليقينَ ليقتلك ؟!




أذكُرُ ذاكَ المساء، كان إدراكي بما يُحيطني واهناً، وذهني لم يكن صافياً على الإطلاق، ولهذا فإن ذاكرتي الآن مشوشةٌ جداً، ومن قليلِ ما أذكرُ أنني رأيت أبي يدخلُ عنوةً إلى غرفتي، والغضبُ يتفتقُ من بين مساماتِ وجهه، كان يصرخُ بجنونٍ وعيناهُ الحمراوان المخيفتان كأنهنَّ كانتا تُريدان أكلي، فيما صُراخهُ كان يأتيني مشوشاً عميقاً، أسمعه ولا أكاد أسمعه.

أغلقتُ عينيّ لمدةٍ لا أعرفُ طولها، وأثناء ذلك غاب صوتُ أبي وغاب كل شيء، وكأنني بإغلاقهما قد أغلقتُ كلَّ حواسيَ الأخرى، وحين عُدتُ لأفتحَ عينيّ رأيتُهُ يسقطُ، مثل شجرة قديمة هدَّ ثِقَلُ الزمان أركانَها، فيما كانت أمي تقفُ في الباب، وتنظرُ إليَّ بكرهٍ يمتزجُ بغضبٍ شديد. هرَعَتْ أمي إليه، حيثُ كان على الأرض مستلقياً وينظرُ نحوي بعينين جاحظتين، وعند ذلك المشهد توقفت ذاكرتي عن التسجيل، فما عُدتُ أذكرُ شيئاً بعد ذلك سوى عينيّ أبي.

ذلك المساء، رغمَ كلِّ الضباب الذي فيه إلا أنني لن أنساهُ ما حييت.

في اليوم التالي حين دخلتُ البيتَ عائداً من المقبرة، كان مليئاً بالنساءِ المُتَّشِحاتِ بالسواد كالغربان، وأمي كانت جالسةً والدموع تَملأُ مُقلتيها، وحين رأتني زمجَرَت بي وجَحَظَتْ عينيها هي الأخرى، قامت نحوي وصَرَخَتْ وهي تَشُدُنِي من ياقتي وتَصفَعُني لأولِ مرةٍ في حياتها: "لقد قتلتَ أباك، فليغضبِ الله عليكَ، والملائكةُ والبشرُ أجمعين، فلتغضب عليكَ كلُّ الشياطين، أيها الشيطانُ اللعين".

أعرفُ يا أبي أنكَ كنتَ ترى الكَذِبَ في عينيَّ وأنا أُبرِّرُ لكَ أسبابَ طلبي للمالِ الكثير، وأنكَ كنتَ تعرفُ أنَّ كلَّ تلكَ النقودِ التي أعطيتَنِي إياها برغمِ كلِّ الكذبِ المنمقِ الذي أخبرتكَ به؛ كانت لأجل الــ ... آآآه يا أبت.


كنتُ أرى شككَ يكادُ ينفرُ من عينيك، هل كنتَ تظنُ نفسك مُخمِّناً؟ لقد كنتَ تَعرِف! في قرارةِ نفسكَ كنتَ تَعرِف. هل كنتَ تنتظرُ مني اعترافاً بذلك؟ كيف أعترفُ يا أبي وأنا الذي لم يكفَّ عن خُذلانك في كل فرصة منحتني إياها لأُصلِحَ نفسي وأُطَوِرَ ذاتي؟! كيف لي بعدَ كلِّ هذه الخيبات وبعد كل هذا الخُذلان، كيف لي يا أبتِ أن أعترف؟!

وأنت الذي مِتَّ بعد أن عرفتَ حقيقة ولدك، هل كنتَ تنتظرُ اليقينَ ليقتلك؟! لقد كنتَ تعرفُ يا أبي، فلماذا مِتَّ إذن؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019