الثلاثاء، 26 يوليو 2016

"السرطان اللي عندي من النوع الخفيف" !!


أذكرُ حين التقيتُ به قبل حوالي سنة، وبعد ما صافحته بحرارة لأنه كان قد تغيب فصلين كاملين عن الجامعة، سألته بسذاجة عن سبب تغيبه، وعندها ألقى بوجهي ذلك اللغم المشؤوم، حين قال بأسىً وبقليل من التفاصيل: "كان سني يوجعني، رحت على الدكتور، وهو بشتغل في سني ضربلي لساني، الجرح التهب واتضاعف وبالأخير صار عندي سرطان".



حينها تغيَرَت ملامحُ وجهي، وارتجَفَت شفتاي، لم أدرِ ماذا أقول، سكتُّ ونظرتُ إليه، تأملته، وتذكرتُ الكثيرَ من المواقف التي جمعتنا سويةً، والمحاضرات التي حضرناها معاً. تذكرتُ أنني ذات مرة تخيلته محامياً شرساً وتنبأت له بمستقبلٍ لامعٍ في مجال المحاماة، تذكرتُ ابتسامته العريضة حين أخبرته بذلك، فقال لي ضاحكاً يومها: "شكلك يا ترابي قد ما بتفكر وبتتخيل، بتزهق من حالك وبتصير تفكر في الناس وتتخيل في حياتهم".

ثم أعادني إلى الواقع وسحبني من خيالاتي وذكرياتي حين ابتسم لي وقال مُطَمْئناً إياي: "بسيطة يا زلمة ما في شي بخوف، والسرطان اللي عندي من النوع الخفيف وعلاجه سهل إن شاء الله"، فرددت معه "إن شاء الله"، ثم صافحته مرة أخرى وقبَّلتُه، وانصرف كلٌ منا في سبيله.

أكملتُ يومي مرعوباً، وحِرتُ بين فكرتين: الأولى، هي أن السرطان مرضٌ حقيرٌ لا شفاءَ له مهما حاولَ الإنسان، فكل من أصيبوا بهذا المرض ماتوا بالرغم من كل شيء. والثانية، حَمَلَتْ بصيصاً من أمل في أن يكون هذا النوع من السرطان "من النوع الخفيف" حسب تعبيره، وأن علاجه بسيطٌ كما قال، وبعد أن يئست من تقليب الفكرتين، دعوتُ له، ثم أخذتني مشاغلُ الحياة.

اليوم صُعِقتُ حينَ شاهدتُ خبرَ وفاتِه ينتشرُ في الصفحات، اليوم أُدرِكُ أن الفكرة الأولى بالرغم من بشاعتها إلا أنها حقيقيةٌ جداً. السرطان مرضٌ حقيرٌ لا شفاء له يا صديقي، ليس في هذا المرض نوع خفيف أو ثقيل، هو سرطان وكفى، لا أنواع له، لا تفاصيل، لا أشكال لا أحجام لا ألوان ولا أوزان، كله واحد؛ سرطان.

عز الدين عفوري، كان زميلي حين كنتُ أدرسُ الاقتصاد، لم تكن علاقتي معه حينها تتعدى ما هو بين الزملاء، وبعد مرور سنة لي في كلية الاقتصاد قررتُ أن أتحول إلى دراسة القانون، فتفاجأت بأنه فعل ذات الشيء، والأكثر من ذلك هو أنه كان يشترك معي في حضور ثلاث محاضرات، عندها تعمقت علاقتي معه إلى حدٍ ما، وكنتُ دوماً أنظرُ إليه بعين الاحترام لما فيه من أدبٍ جم وأخلاقٍ حميدة، وعقلٍ فذ. كان عزالدين من الطلاب المتفوقين، ولطالما ساعدني في فهم ما لم ينجح الأستاذ في تفهيمي إياه.

اليوم أقول إن كلية القانون قد خسرت واحداً من أفضل وأرقى طلابها، وأكثرهم أدباً واحتراماً وذكاءً، عليكَ الرحمة يا عزالدين، ولك منا في الذاكرة مكان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019