السبت، 22 مارس 2014

فماء سمائك يا وطني أطهر




من غَفَوتي أنهض، أتذكر وطني، الذي لطالما لازمني وأقلقَ فكري، وطنٌ تأملته طويلاً، لكنه يباغتُني دوماً بتقلباته المُفاجئة ويترُكُني طوالَ الليلِ أحاولُ ترميمَ ما هشَّمَ الصبح. 

أطلُّ من شرفتي، وبعينيِّ عصفورٍ، وبصيرةٍ بوسعِ المدى، أُبصرُ وأحللُ الأحداثَ، وأُحاولُ أن أنتجَ فِكراً بُنيوياً قائماً على الشك، التمييز، التحليل، التجريب وفك الجدل والتناقض. كنتُ أقرأُ في الوجوهِ قِصصاً وفي الأشخاصِ روايات، وفي الوطن قرأتُ مجلدات، قرأتُ كثيراً ولم أكتب شيئاً بعد.

وفجأةً وبلا سابقِ إنذار، قررَ عقلي الباطن أن يكتبَ رسالةً للوطن، فروَّضَ كل حواسي لمسعاه، ولكنني لأسبابي الخاصة أجَّلتُ الكتابةَ إلى اليوم التالي، فقبل أن أبدأ كان عليَّ أن أقوم ببعض الترتيبات.

وكبدايةٍ سأشطُبُ ما تبقى من ملامح الفرح في وجهي، فأن تكتب في الوطن عليك أن تكون إما مُتجهماً أو حزيناً. ولن أغسلَ وجهي هذا الصباح بماءِ الصنبور الذي يأتينا من خزانِ مياهٍ إسرائيليٍ قريب، وعِوضاً عن ذلك سأنتظر المطر، فماءُ سمائكَ يا وطني أطهر. وفرشاةُ الأسنانِ التي صُنعت خارجَ بِلادي، هي يا وطني خائنة، فقد تآمرت مع المعجون صاحبِ النكهةِ المسروقةِ من ربوع حقولكَ على لساني، وحاولا أن يُذيبا حَلماتِهِ كي لا تعود له القدرةُ على التفريقِ بينَ ليمونِ أريحا وبرتقالِ يافا، سألقي بهما في قعرِ سلَّةِ النفايات لامبالياً بشيء. وسأهجرُ سريري وأغطيتي لأنام أرضاً هذه الليلة، ملتحفاً بحلمي أن أراك سالماً منعماً وغانماً مكرماً.

وفي الصباح التالي، بعد أن رافَقَتْ سيجارتي فنجالَ قهوتي في استفتاحية صباحية على أنغام "وطني" لفيروز، استخرجتُ ورقةً من دُرج القرطاسية وشرعتُ كاتباً:

"عزيزي الوطن، تحية طيبة وبعد،

أي نعم يا وطني، أكتبُ إليكَ بعدما قررتُ أن أستمر في العيش مُتحدياً كل الظروف، وصادقَ اللهُ على قراري، وأُحيطكَ علماً أنه ولفترة من العمر كنتُ جباناً أخافُ الموتَ فقد كنتُ أظن أنه يؤلم، أما الان فقد اكتشفتُ أنَّ هنالك ما هو أشد إيلاماً؛ أن يموتَ فينا الوطن ونحن على قيد الحياة.

وطني، إنَّ كثيراً ممن نرى من المواطنين، كانوا عبارةً عن خامةِ مواطن، أو مواطنٍ خام، في زاويةٍ من قلبِ كلِّ مواطنٍ منهم كان يُهاجرُ وطنٌ مجروحْ، لذا فإن انتماءهم لوطنهم كان قنبلةً موقوتة، أما الآن فهو لا يقل ولا يزيد عن (فُتيشة)، فالوطن بنظرهم لم يكن سهولاً وجبالاً وبحاراً وأنهارْ ...، إنما كان (إنساناً وفكرة).

ولكن بعد أن استسلموا لأصابعِ هُواةِ السياسةِ وغُواتِها، صنعوا منهم خلقاً آخر، فقتلوا فيهم الإنسان، ولم يتركوا لهم أي فكرة. وما أكثر ما شَوَّهَ السياسيون ذلك المواطن، فأخرجوه مسخاً ممسوخاً، فلا تستغرب يا وطني العزيز إن رأيتَ أخاً يقتُلُ أخاه، أو رأيتَ الراياتِ تُرفعُ بدلاً من العَلَم في المهرجانات والاحتفالات وعلى خزاناتِ مياهِ البيوتِ ومآذنِ الجوامع، أو إن شعرتَ أنَّ انتماءهم لك صار مزوراً ومشوهاً، وأنَّ انتماءهم الأولى والأهم هو الحزب والفصيل.

فعلينا ألا ننتظر مُطلقاً من هواة السياسة وغواتها، ومن شايعهم من "المثقفين الإداريين"، أن يُخرجوا جماهير المواطنين من حالة الأعرابيةِ والغوغائيةِ الدوغماتية إلى قيَمِ المجتمع المدني الحقيقية، ولا يمكننا أن ننتطر منهم أن يُثقفوا أولئك المواطنين نحو الحرية والتحرر، فقد صار صِراعُهُم على السلطة بين داعٍ للقفزِ بالشعبِ في الماء بحجةِ أن النارَ مُحرقة، وداعٍ للقفزِ بالشعب في النار بحجةِ أن المياهَ مُغرقة.

فلنُناضل جميعاً على اختلاف مواقعنا، من أجل الحرية والتحرير والتأسيس لمجتمعٍ راشدٍ يقودهُ الحقُّ والعدل، في فضاء من الحرية، مستقرٌ في ثوابِتِهِ، نامٍ في مداه. ولا خوفَ على جماهير الناس حينها، لأن جدليةَ السنن المودعةِ في أعماق هذه الحياة، ستدفعُ بهذهِ الجماهير نحو رفض الخضوع والبحث عن الحرية.

ويجب أن نتذكر ونعرف جيداً أنَّه ورغم كل شيء يبقى أشرفُ الناسِ وأطهرُهُم، هم أولئك الذين تعيشُ الكلابُ على أشلائِهم، ويستثمرُ السياسِيون دماءَهم في المُزايدات الدميمة! وعندما يرتقي أولئك الأبطال متسربلين بدمائهم، يبدو لبسطاءِ الناسِ أنَّ الجبناءَ كانوا على حق، وتلك خديعةُ الطبعِ اللئيم.

وطني العزيز كان بودي أن أملأ باقي السطور، بمراراتٍ وآلامٍ أخرى، لكن عند هذا الحد تذكرت الشهداء الذين لا نعرف أين نذهب بوجوهنا منهم، فعليهم رحمة الله، أما أنتم فالسلام عليكم، ودمتم في رعاية الله وحفظه. "
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع ما يُنشر هنا، هو نتاج فكري خاص بي، وأي انتحال له، سيعرض فاعله للمساءلة القانونية محمود ترابي © 2019